يقول الشاعر «أمل دنقل» فى قصيدته «لا تصالح»: «أيصير دمى بين عينيك ماء؟.. أتنسى ردائى الملطخ بالدماء؟.. تلبس -فوق دمائى- ثياباً مطرزة بالقصب؟».. أكثر من ألف شهيد سقطوا فى ثورة 25 يناير، وتم تبرئة المتهمين بقتلهم الواحد تلو الآخر. ذهب الشهداء بتضحياتهم وبقى الجبناء الذين سفكوا دماءهم يسعون بيننا بدم بارد. وها نحن أولاء نعيش لنشهد تبرئة ساحة كل المتهمين، الحاضرين منهم والغائبين، فى موقعة الجمل، ليوضع فصل الختام فى محاكمات قتل شهداء الثورة. كانت البراءة نصيب من حوكموا خلال المرحلة الانتقالية، فى ظل المجلس العسكرى، وتكرر ذلك فى عهد الرئيس مرسى! هكذا تستحق مصر الدخول فى موسوعة «جينيس» كدولة ضربت الرقم القياسى فى عدد ما يسمى ب«الجريمة الكاملة»، لتهد كل نظريات القانون التى عرفها الإنسان فى كل زمان ومكان. فعلماء القانون كانوا ينفون وجود «الجريمة الكاملة»، ويقولون إن أى مجرم، مهما كانت درجة حرصه واحترافيته، لا بد أن يترك قرينة وراءه تهدى المحققين ورجال القضاء إليه، لينال عقابه على الجرم الذى ارتكبه. ها هى مصر تنسف القاعدة فى عهد العسكر، ثم الإخوان، لتشهد عدداً مذهلاً من الجرائم الكاملة التى أريق فيها الدم الحرام الذى خرج مدافعاً عن الكرامة والحرية، دون أن يعثر أحد على القاتل. ومن عجب أن العالم كله شهد هذه الجرائم وهى ترتكب على الهواء مباشرة، عبر كاميرات التليفزيون. ومن المؤكد أنك شاهدت بثاً مباشراً لجرائم القتل الممنهج التى شهدتها موقعة الجمل، وعلمت بمن كان يحمى تدفق بلطجية الخيل والبغال والجمال إلى ميدان التحرير، ولاحظت من كان يشير بيديه مشجعاً ومحفزا للقتلة على إتمام مهمتهم، وعاينت القتلة بعينى رأسك. ومع ذلك فإن جهات التحقيق عميت عن رؤية كل ما رآه أبناء هذا الشعب، وما تابعه العالم عبر شاشات التليفزيون! ليس ثمّ من خوف على الشهداء، فهم أحياء عند ربهم يرزقون، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الخوف كل الخوف على الأحياء الذين صار الدم فى أعينهم ماء! فما معنى أن يذهب الدم الذى بذله الشباب من أجل حرية وكرامة هذا الشعب هباء إلا أن يكون ماء؟! إننى لا أخشى على هذا الشعب من انهيار مقدرات معيشته، ولا من سيطرة فلول الوطنى المنحل عليه، ولا حكم الورثة من «الإخوان» له. إننى أخشى على هذا الشعب من صرخة أم مكلومة أو أب مطعون باستشهاد ابنه دون القصاص من قاتله، أخشى تلك الصرخة التى تخترق حجب السماء لتصعد إلى جبار السموات والأرض، فيعاقب الجميع: القتلة، والساكتين على القاتل إيثاراً «للتصالح» على الدم المهدر!