الآن، وعبر هذه السيرة الطويلة أخرج عليكم أنا من بين أسطرها المخطوطة بدمائى.. آتيكم من عالمى الذى لا يشعره إلا من آنسوه من مفارقى الحياة أمثالى آتيكم سعيداً من ضيق عالمى الهلامى إلى متسعكم لأحكى لكم قصة اللحظات الأخيرة التى قضيتها بين يدى فى محاكمتى، التى لم يرصدها سوى هذه الأوراق وسواى، لذا فإن الأوراق ستتجسدنى، لتفيكم بالكثير مما لا تعرفونه عن لحظات عمرى الأخيرة المبهمة المفضوحة. فقد تركت لى سوسن (زوجتى) المنزل ثائرة، مؤكدة أنها لن تعود إليه أبداً ما دمت أُصر على الُمضى فى طريقى هذا وبسلبيتى هذه، وكان معها كل الحق، فابنتنا «رحمة» عادت من مدرستها ملتهبة الوجه والعينين مصابة بالحصبة الألمانية المنتشرة فى مدارسنا وقتئذ. ولسوء الحظ فإن ولدنا «كريم» قد أسقط الشاى فوق ذراعه اليمنى وبعض من جسده الذى التهب فعلاً فى شقتنا الصغيرة، الصراخ والضجيج صراخ ولدى المألوم وضجيج زوجتى ملتاعة القلب على ولدها وابنتها وقد وقفت تستحثنى بأجمل وأغلى لحظات عمرنا وأقسمت علىّ بحبها الذى ما زال يومض فى عينيها (هكذا رأيته قبل أن أرحل) بأن ألقى سيجارتى المحشوة بأسباب الهروب والغياب وأن أتصرف، بأن أحضر أى نقود لتداوى أبناءنا، وقتها كانت الدنيا معتمة فى ناظرىّ ورغم أننى لم أكن فاقدا للوعى فإننى كنت أترنح وأشعر بالغثيان، استجبت متثاقلاً لتوسلاتها، ألقيت سيجارتى وذهبت إلى الحمام أفرغت جوفى فى المرحاض ثم غسلت وجهى وخرجت فى طريقى إلى اللاأين، لكى أتصرف وأحضر بعض النقود وبقارعة الطريق بدا لى من يثبطنى ويكسر مجدافى الهش وسط الإعصار الهائج. قال لى: إلى أين ستذهب أهل فقراء مطحونون هم أحوج ما يكون للقرش ورفقاء لا فائدة منهم ولا منفعة عُد بكرامتك عُد. أبنائى مرضى أقول لك عُد بكرامتك أغلى ما تملك، تقول: أبنائى مرضى، اذهب إذن وتسول إن استطعت أو لتذهب إلى الجحيم. كان أسلوبه قاسياً تهكمياً وكلماته صخرية جافة أوصدت الدرب أمامى عدت أدراجى وسط ضجيج الزوجة الموبوءة بمصائبها، امتطيت السرير ودثرت نفسى بلعناتها ونمت نوماً مفتعلاً تاركاً لها الجمل بما حمل لتتصرف هى أو لتفعل ما يروق لها. وبُعيد خروجها بقليل رأيتنى أنهضنى بوخزات من أصابعى الطويلة الجافة التى انغرست فى ظهرى لمرات ومرات حتى تأكدت أننى استفقت ورأيتنى اقتادنى إلى قاعة المحكمة الخاصة التى أقيمت من أجلى فكنت أنا المتهم وراء القضبان أصرخ (مظلوم مظلوم) وكنت أنا القاضى والمحلفون أنظر إلىّ وأقول فى ذاتى (هكذا يقول جُل الجناة) وكنت أنا عضو الادعاء أوجه إلىّ أنا المتهم أقسى الكلمات وأشد العبارات، واطالبنى أنا القاضى بتوقيع أقصى عقوبة علىّ لأكون عبرة لى ولغيرى. وكنت أنا الحاضرون أتابع هذه الجلسة النارية التى ازدادت اشتعالاً باهتمام بعدما نهضت أنا المحامى لأدافع عنى فيما وجه إلىّ منى من أنا عضو الادعاء من اتهامات متعددة. فدافعت عن تقاعسى فى علاج أبنائى بأننى فقير فاقد للعمل والمال بفعل فاعل وليس لى ذنب، فهم طردونى والكثيرين غيرى ليستفيدوا من قطعة الأرض التى يقام عليها المصنع الذى نعمل فيه، لينشئوا مكانه فندقاً كبيراً لذا فأنا مجنى عليه. ودافعت عن إدمانى للمسكرات والمخدرات وانحرافى فى الشهور الأخيرة بأننى يائس فاقد للعمل التف حوله رفقاء السوء فأغوه وواعزه الداخلى حتماً سيعيده إلى سابق عهده. وأما فى دفاعى عن من أين أجىء بثمنها، فقلت إنها صارت ملء الطرقات وعلى طالبها أن يمد يده فقط ليجدها، دارت محاكمتى الملتهبة هذه لساعات وساعات كمباراة حامية الوطيس بينى أنا عضو النيابة الماهر الدقيق فى توجيه اتهاماته بقسوتها وبينى أنا المحامى ببراعتى وحججى وسطوتى وبراعايتى أنا القاضى وبحزمى وبشدتى وبمرأى منى أنا الحاضرين وبترقبى وخوفى أنا المتهم الرابض كالجريح خلف القضبان. وبعد أن مضى وقت المرافعات والمجادلات ناديت أنا الحاجب بإذن منى أنا القاضى برفع الجلسة وما لبثت أن نبهت على الأخرى لسماع الحكم علىّ. ولم أدرِ أنا المتهم هل كنت عادلاً عندما حكمت أنا القاضى علىّ بعقوبة اختيارية أنفذها فى حق نفسى أنا الجلاد عن طريق حبل معقود متدلٍّ ليقبض فوق حنجرتى بقوته وقد ثبته فى السقف أثناء واحدة من نوبات يأسى المتكررة. وبعدما شاهدتنى أنا المتهم، لمحامٍ وعضو الادعاء الخصمين اللدودين اللذين تقمصانى يتضاحكان معاً وكأن شيئاً لم يكن، تأكدت أن هناك ضرورة معنوية تحتم علىّ أن أنفذ هذه العقوبة فى حق نفسى، وإلا سأكون خائننى، لذا فأنا آتيكم سعيداً لأننى أديت واجبى برغم عدم إلزاميته قاطعاً الطريق على اللغط الطويل الذى دار بينى وبينى أنا الحاضرين فى جلسة محاكمتى، مخرساً ألسنتى المتسائلة هل سينفذ هذه العقوبة فى حق نفسه أم يتحجج بأن القاضى كان رحيماً ومنحه فرصة الاختيار وتقرير المصير؟؟.