كل يوم والثانى يخرج علينا شخص يزعم أنه اخترع اختراعاً جديداً عجيباً. وقد تحول الأمر إلى ما يشبه الحالة التى غدت تسيطر على مصر خلال العام الماضى، وقد بدأت باختراع علاج الإيدز الشهير لصاحبه اللواء عبدالعاطى، وانتهت ب«الكلب الإلكترونى» القادر على اكتشاف المفرقعات بكفاءة أعلى من الكلب البوليسى!، وبينهما انتشرت أخبار كثيرة حول اختراعات يقدمها مصريون فى مجالات عديدة، حتى وصل الأمر بأحدهم إلى الحديث عن اختراع يساعد فى كشف إصابة الإنسان بالسرطان من خلال تحليل خطه!، يعنى ما عليك سوى أن تكتب كلمتين على ورقة ليتولى العبقرى المخترع النظر فى خطك ويحدد لك خريطة أمراضك، لا سمح الله!. هذه الحالة لها جانب إيجابى وآخر كوميدى، فأما الوجه الإيجابى فيرتبط بوجود إحساس لدى الكثيرين بأن مصر فى أشد الحاجة إلى عقول تجتهد وتبتكر وتخترع لتساهم فى حل تركة المشكلات التى ورثناها عن العهود البائدة، أما الوجه الكوميدى فيرتبط بتلك «الافتكاسات» التى تطل علينا كل حين ليقول لنا أصحابها إنهم أتوا بالعجائب وصنعوا ما لم يسبقهم إليه بشر، ليثبتوا ويؤكدوا عبقرية المصرى «الفهلوى» الذى يفهمها وهى «طايرة»، وتكون النتيجة أن تهرول وراءهم وسائل الإعلام فتجرى معه الحوارات، ويدلون بالتصريحات، وتنظم معهم لقاءات تليفزيونية فى إطلالة لا تخلو من كوميديا على الشعب الطيب، ولا أريد أن أذكرك بإطلالة «الكفتة» التى تحفظها جيداً. جانب كوميدى آخر فى الأمر يتعلق باحتفاء مسئولين -لهم صفة علمية وأكاديمية- بمثل هذه «الافتكاسات»، بمن فيهم الوزير المسئول عن البحث العلمى!، والهدف من المولد الذى يشارك فيه الوزير لا يتعدى إثبات الذات أمام المسئول الأعلى الذى يشهد عصره الميمون هذا الزخم من الاختراعات!. ضعوا الأمور فى نصابها. الابتكار والاختراع منظومة وليس مجرد اجتهادات فردية قد يحالفها التوفيق أو يفوتها النجاح. الابتكار والاختراع أدوات تطوير، والتطوير لا يحدث نتيجة اجتهاد فرد أو اثنين داخل نظام معين، بل يرتبط بتحول الجماعة بمجملها إلى جماعة منتجة، محددة الأهداف والأدوار، والمسارات. كل دول العالم المتقدم تطورت عندما تمكنت من بناء منظومة عمل جيدة فى كل المجالات، دون اعتماد على فرد نابغ أو نابه هنا أو هناك. نعم هناك عقليات مضيئة فى مصر، وربما كانت قادرة على تقديم اختراعات فريدة وابتكارات مفيدة، لكن الأمر لا يتعدى فى كل الأحوال الاجتهاد الفردى. ومن المؤكد أنك تعلم أن منظومة التعليم والبحث العلمى والعمل فى مصر كثيراً ما أحبطت مبدعين ومبتكرين ومخترعين لأنها منظومة تستند إلى «البلادة»، وعندما يظهر وسطها عقل مختلف فإن لديها الأساليب والأدوات التى تمكنها من إعادته إلى «حظيرة البلادة» بمنتهى السهولة واليسر. إن انشغال الإعلام بهذه الاختراعات يؤكد لك أن المسألة لا تتجاوز ألعاب الحواة أو شغل الموالد، الأمر الذى يدلل لك على فكرة عدم وجود منظومة، لأن المجتمعات التى تشهد تضخماً لدور الإعلام فيها بالصورة القائمة لدينا مجتمعات تفتقر إلى المنظومة. فلا يصح أن نصف مجتمعاً أصبح فيه الإعلام ساحة للعمل السياسى والاقتصادى والاختراعاتى إلا بأنه «مجتمع موالد».