لم تختلف كثيراً النتائج الرسمية المعلنة للانتخابات التشريعية التونسية عن تلك التقديرات التى ظلت تتوالى أثناء الفرز الأولى للنتائج، ومع ذلك من المهم التأمل فى التشكيل النهائى للبرلمان قبل الانتقال لمناقشة الانتخابات الرئاسية الوشيكة. لوحظ على سبيل المثال أن عدد القوائم الممثلة بمقعد برلمانى واحد ارتفع من 6 فى التقديرات الأولية إلى 9 فى النتائج النهائية، وهذا مؤشر على تعمق التشرذم تحت قبة مجلس نواب الشعب. لوحظ أيضاً أن قوائم المستقلين، مثل قائمة «مجد الجريد» وقائمة «رد الاعتبار» لم تفز إلا بمقعد واحد لكل منهما وهذا مؤشر على تضاؤل فرص نجاح المستقلين فى الانتخابات الرئاسية بفعل شدة الاستقطاب. وفى الانتخابات التشريعية، فاز 19 رجلاً من رجال الأعمال، منهم من هو محسوب على «نداء تونس»، مثل: المنصف السلامى وسلمى اللومى، ومنهم المحسوب على حركة النهضة، مثل محمد فريخة، معظم هذه الفئة من النواب ليس لها تاريخ سياسى سابق، لكنها ستدخل المجلس للدفاع عن مصالحها الاقتصادية، ويا لها من مصالح. فأن نعلم أن حافظ الزوارى الفائز عن قائمة «آفاق تونس»، دائرة سوسة مثلاً يستأثر وحده ب35% من نشاط النقل البرى للمحروقات، كما تشير إيمان الحامدى فى مجلة التونسية الإلكترونية، فإن هذا ينقلنا من مستوى الحديث عن رجل أعمال إلى الحديث عن عملاق اقتصادى. ومع ذلك فإن مهمة هؤلاء لن تكون سهلة فى ظل وجود نواب من صقور اليسار أمثال النقابى المخضرم عدنان الحاجى الذى عُرف بدوره البارز فى انتفاضة الحوض المنجمى عام 2008 وعمار عمروسية، عضو الجبهة الشعبية، وهذا ينبئ عن حيوية سياسية تستحق المراقبة. أخيراً بدا واضحاً وضوح الشمس اتجاه الناخبين للتعبير عن استيائهم من أداء الترويكا عموماً، ومن أداء حزبى المؤتمر والتكتل خصوصاً، فالحزبان المذكوران لم يحصدا معاً سوى 5 مقاعد (4 للمؤتمر و1 للتكتل)، ومن عجب أن يظل أبرز رموز الحزبين، أى المنصف المرزوقى ومصطفى بن جعفر يدافعان باستماتة عن حقهما فى رئاسة الجمهورية! عند الانتقال للانتخابات الرئاسية سنجد أن هناك 27 مرشحاً بينهم امرأة واحدة هى كلثوم كنو. هذا العدد الكبير من المرشحين -حتى بفرض أن جدية التنافس لا تتوفر إلا لنصفه فقط- إنما يمد خط التشرذم السياسى على استقامته، ففى فئة وزراء النظام السابق وأعضاء الديوان السياسى للتجمع الدستورى الديمقراطى يتنافس أمثال كمال مرجان وحمودة بن سلامة، دع عنك رئيس حزب «نداء تونس» نفسه، وفى المربع اليسارى تنويعات مختلفة، حيث يتنافس نور الدين حشاد وحمة الهمامى بالطبع، ونجيب الشابى الذى سبق أن طرح نفسه منافساً لرئاسة بن على ومُنِع. ومن الليبراليين أو أدق رجال الأعمال يتنافس سليم الرياحى ومصطفى النابلى محافظ البنك المركزى بعد الثورة ومحمد فريخة، والطريف أنه فى لعبة المال والسياسة دخلت الرياضة أيضاً على الخط، فليس مصادفة أن اثنين من أثرياء المرشحين تربطهما علاقة قوية بأكبر النوادى الرياضية التونسية، وصرح أحدهما بأن شعبيته الرياضية أوصلته لعضوية البرلمان. وسط هذا المشهد المتداخل والمعقد طرح مصطفى بن جعفر، رئيس المجلس التأسيسى فكرة «البحث عن مرشح توافقى»، ودعا ما سماه «كل مكونات العائلة الديمقراطية الاجتماعية» للحوار من أجل اختيار شخص تدعمه فى انتخابات الرئاسة، ومن بين الأسماء التى تم تداولها للحوار منصف المرزوقى ومصطفى بن جعفر وأحمد نجيب الشابى وحمة الهمامى، وهؤلاء مرشحون فعلاً للرئاسة، كما تم تداول أسماء مية الجريبى ومحمد عبو وزهير المغزاوى وهؤلاء ليسوا على قوائم المرشحين، وبالتالى فإن أول سؤال يتبادر للذهن هو: على أى قاعدة استند اختيار المدعوين للحوار؟ الدعوة التى أطلقها مصطفى بن جعفر أيدتها بالطبع حركة النهضة التى تقبلت فى البداية نجاح «نداء تونس»، ثم أخذت نغمة انتقادها للنداء تتصاعد، وقد سبق للنهضة أن دعت لحكومة وحدة وطنية حتى قبل إجراء الانتخابات التشريعية والأرجح أنها كانت تتحسب إما لفوز نداء تونس أو لفوزها بفارق ضئيل عليه، وهى عندما تؤيد فكرة الرئيس التوافقى هى تريد أن تقطع الطريق على السبسى وتمنع استحواذه وحركته على رئاستى الجمهورية والحكومة ولِم لا البرلمان أيضاً. على الجانب الآخر قوبلت فكرة التوافق برفض المرشحين الذين يدركون أن لائحة الترشيحات التوافقية لن تشملهم. وهم يتسلحون فى رفضهم بسلاح قانونى دستورى حين يعلنون أن تقديم شخص بذاته للشعب وحثه على انتخابه فيه توجيه للإرادة الشعبية ومصادرة على حق الناخبين فى الاختيار. عموماً العقبات التى تواجه هذا التوافق أكبر كثيراً من أن تسمح له بأن يُفعَل فى الواقع السياسى، أولاً لأنه فى حالات الاستقطاب لا تكون هناك فرصة كبيرة لمرشحى الوسط والألوان الرمادية. ثانياً لأن المدعوين للحوار من أجل الخروج بمرشح توافقى يعتبر كل منهم نفسه الأنسب للمنصب، وفى اللحظة التى ستعلن فيها النهضة بوصفها ثانى أكبر قوة سياسية اختيارها للرئاسة، فإن هذا قد يؤدى إلى تفجير الدعوة للتوافق. يذكر أن هناك من يذهب إلى أن اختيارات النهضة تتردد ما بين المرزوقى ومصطفى بن جعفر والشابى وحمودة بن سلامة وعبدالرزاق الكيلانى عميد المحامين والمناضل الحقوقى ضد بن على ونظامه، فهل يقبل حمامى مثلاً وهو من الأطراف المرشحة للحوار بالتوافق حول أى من تلك الأسماء؟ أمامنا حتى 23 من هذا الشهر فرصة سانحة لمتابعة التفاعلات السياسية التونسية، ورؤية عملية التأثير والتأثر بين مكونات الطيف السياسى التونسى، ولا ننسى أن اختيار الرئيس يتم فى أجواء الاستعداد لتشكيل الحكومة الجديدة. لكن فى حدود المعطيات المتاحة، فالأرجح أن الطريق إلى قرطاج لن يسلكه رئيس يطلق عليه «التوافقى».