انطلقت اليوم السبت الدعاية القانونية لانتخابات الرئاسة في تونس ، وهي الانتخابات التي زادت خطورتها وحساسيتها بعد النتائج المفاجئة التي حققها حزب "نداء تونس" الفائز بالمركز الأول ، والذي يعتمد في قوامه على أركان من نظام زين العابدين بن علي الذي قامت عليه الثورة ، النتائج البرلمانية كما أشرت في مقال سابق ستلقي بظلالها القوية على انتخابات الرئاسة وعلى اتجاهات التصويت فيها أيضا ، وفور الإعلان رسميا عن النتائج بدأت اللقاءات والحوارات والمشاورات والصفقات العلنية والمخفية بين كتل حزبية مختلفة ، بعضها لا يمكن تبرئته من أن يكون "فخا" مقصودا لسحب قوى مهمة إلى خديعة كبرى قد تنتهي في حال تنفيذها لتدمير مسار الثورة التونسية بالكامل ، حيث تسربت الأخبار عن أن الباجي قائد السبسي رئيس حزب "نداء تونس" أجرى مشاورات ولقاءات مع قيادات من "حركة النهضة" الممثلة للتيار الإسلامي والفائزة بالمركز الثاني في الانتخابات ، على أساس أن هناك إمكانية لعقد صفقة بين الحزبين الكبيرين بما يضمن إنجاز حكومة توافق وطني وضمان وصول شخصية متفق عليها إلى رئاسة الجمهورية ، والصفقة حسب بعض ما تسرب تقضي بأن تكون النهضة هي الشريك الأساس وربما الوحيد لنداء تونس في الحكومة المقبلة بمحاصصة حزبية وبطبيعة الحال يكون رئيس الحكومة من نداء تونس أو أن تكون الحكومة من تكنوقراط ينصبهم نداء تونس ويعملون لحسابه ، على أن يتم تفريغ منصب رئيس البرلمان الجديد لشخصية قيادية في حركة النهضة قد تكون "عبد الفتاح مورو" ، وذلك في مقابل دعم النهضة للسبسي في انتخابات الرئاسة المقبلة . إذا صحت هذه التسريبات ، فإني أؤكد للصديق راشد الغنوشي أنه أمام فخ كبير وبالغ الخطورة ، وقد ينتهي بكارثة على الثورة التونسية ، لماذا ؟ ، أولا منصب رئيس البرلمان منصب غير ثابت قانونيا ويمكن سحبه ببساطة بعد أسبوع واحد وليس بعد ستة أشهر ، ولا يوجد في الدستور ما يمنع تغييره أو يمنحه حصانة ، وأما التوصل إلى حكومة تكنوقراط وليست حكومة محاصصة سياسية ، فهو أيضا خدعة ، لأن التكنوقراط يعرف أن الذي "عينه" ووضعه في مكانه هو "السبسي" وتحالفاته ، وبالتالي فعمله وولاؤه وإجراءاته بالكامل ستكون لخدمة توجهات وخطط "نداء تونس" مهما تأذت منه النهضة ومواقعها السياسية ، وأما البعد الثالث من الصفقة وهو الأخطر ، فهو التخديم على وصول السبسي لرئاسة الجمهورية ، وهنا بعد يوم واحد من أدائه اليمين الدستورية يمكن له أن يبخر كل الاتفاقات السابقة ، يمكن له أن يقيل الحكومة ويكلف حزبه بتشكيل الحكومة الجديدة ، ويمكنه أن يعيد تفكيك وتركيب أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية وهي الأخطر بما يضمن ولاءها الكامل له ولحزبه وتوظيفها في اتخاذ إجراءات مروعة في حق خصومه ، وأخطر خصومه هم "النهضة" فيتم تصفيتها سياسيا وإداريا وتنظيميا أو إجبارها على العودة إلى باطن الأرض وخروج قياداتها إلى المهاجر التي أتوا منها ، والعاقل من اتعظ بغيره . هناك مسار مختلف للترتيب لانتخابات الرئاسة ، دعت إليه مجموعة أحزاب مدنية ويسارية في مقدمتها "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" برئاسة مصطفى بن جعفر، وهو مرشح للرئاسة ، و"المؤتمر من أجل الجمهورية" الذي أسسه المنصف المرزوقي وهو الآن برئاسة عماد الدايمي، والحزبان هما الشريكان السابقان لحركة النهضة في ائتلاف التروكيا الذي حكم تونس من نهاية 2011 إلى مطلع عام 2014، والحزب الجمهوري وأمينته العامة، مية الجريبي، والتحالف الديمقراطي برئاسة محمد الحامدي، والتيار الديمقراطي برئاسة، محمد عبو ، واللقاء مرشح للانضمام له آخرون ، وتلك المجموعة لم تحقق نتائج كبيرة في انتخابات البرلمان ، لضعف كوادرها المرشحة في الولايات المختلفة ، لكنها تملك حضورا شعبيا جيدا وحققت في عدة دوائر نتائج لافتة بما يعني تمركزها الشعبي جيدا في دوائر انتخابية عديدة ، وميزة تلك المجموعة أنها كلها من أصحاب الولاءات الصريحة للثورة التونسية وضد عودة الفلول ، ولديهم مخاوف جدية من اجتماع مفاتيح القرار الرسمي في الدولة التونسية في يد واحدة : رئاسة الحكومة ورئاسة البرلمان ورئاسة الجمهورية ، لأن هذا يعيد دولة الحزب الواحد بكل تاريخها الاستبدادي والقمعي وبكل إرث الفساد الذي شهده العالم من نظام بن علي ، محمد عبو قال كلاما مهما في الاجتماع كان نصه أن : "وجود حزب نداء تونس الفائز بالانتخابات التشريعية لا يخدم مصلحة تونس والباجي قائد السبسي رئيس هذا الحزب يمثل خطرا على المسار الثوري في البلاد" ، كما أن مصطفى بن جعفر ، وهو مرشح رئاسي أعلن استعداده للتنازل إذا تم التوصل إلى مرشح توافقي . التنافس الحقيقي والجدي والوحيد في انتخابات الرئاسة محصور عمليا في اثنين : الباجي قائد السبسي والمنصف المرزوقي ، وقد برهن المرزوقي طوال فترة توليه الرئاسة على ولاء مطلق للثورة وإرثها وأشواقها وأخلاقها ، كما كان مضرب الأمثال على التواضع والزهد في بهرجة المنصب والتعفف عن المال العام ، كما أنه رغم أي خلاف ثانوي ابن اليسار التونسي ، والقطاع الأوسع من اليسار التونسي منحاز للثورة ، رغم نفرته من النهضة ، كما أن التجارب المروعة التي شهدتها دول أخرى تجعل هناك حالة اصطفاف اضطرارية لقوى الثورة من كل تيار وراء المرزوقي ، لأنه الضمانة الحقيقية لنجاح التجربة التونسية ، وأن لا تجتمع السلطات كلها في يد حزب واحد . على الأستاذ راشد الغنوشي وقيادات النهضة أن يحسبوها جيدا ، الخطأ الواحد هنا سيكلف كثيرا وطويلا ، وقد يعيد البلاد سنوات طويلة للوراء ، وعلى الغنوشي أن يتعلم الدرس من التجارب الأخرى ، لن يحمي ظهرك إلا قوى الثورة ، وإن اختلفت معك أو اختلفت معها ، فليكن ولاؤك للثورة وحراكها وقواها وأحزابها ورموزها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين فهي أخف عليك ألف مرة من "الوحوش" التي تتلمظ وتصطك أسنانها انتظارا للانفراد بك والفتك بك ، وحذار من أن تمضي خطوة واحدة في الاتجاه الخاطئ .