استردت الكنيسة الكاثوليكية عافيتها، بعد طرحها واقعها على مائدة البحث والدراسة، بغير أن تبنى حصون التبرير والدفاع عما هى فيه باعتباره موروثاً مقدساً، واستطاعت أن تفصل بين القواعد الإيمانية الأساسية وبين ما تسلل إليها عبر عصورها الوسطى، وتحولت معه من خادم يبحث عن الضال والخاطئ إلى سيد يمنح ويمنع ويحتجز مواقع الصدارة ويرفل فى نعيم ليس له، وينطبق عليه قول الكتاب المقدس: «هكذا قال السيد الرب للرعاة، ويل لرعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم، تأكلون الشحم وتلبسون الصوف وتذبحون السمين ولا ترعون الغنم، المريض لم تقووه، والمجروح لم تعصبوه، والمكسور لم تجبروه، والمطرود لم تستردوه، والضال لم تطلبوه، بل بشدة وبعنف تسلطتم عليهم، فتشتتت بلا راعٍ وصارت مأكلاً لجميع وحوش الحقل وتشتتت، ضلت غنمى فى كل الجبال وعلى كل تل عالٍ. وعلى كل وجه الأرض تشتتت غنمى ولم يكن من يسأل أو يفتش» سفر حزقيال 34. امتلكت الكنيسة شجاعة المواجهة والتصحيح، فتصدت بموضوعية لثلاثية الإلحاد والوجودية والشيوعية، عبر رؤية واقعية ترجمتها فى أوراق المجمع الفاتيكانى الثانى (1962- 1965) التى انطلقت منها لتتفاعل من أجيال الشباب الواعدة، وتعلن مجدداً رسالتها بلغة معاصرة، فى تحديد مفاهيم عقائدها الأساسية وعلاقاتها مع الآخر المختلف مذهباً وديناً، وامتدت لغير المتدينين، وتحررت من مظاهر الفخامة والانفصال الوجدانى عن الرعية، ورفعت وصايتها عنهم لتعود إلى دورها الرعوى والتعليمى، كما تسلمته من الكنيسة الأولى. نحن فى كنيستنا القبطية وفى ظل المتغيرات المتسارعة التى تجرى من حولنا، بحاجة إلى أن نملك شجاعة الإقرار بتراجع العديد من آلياتنا وربما مفاهيمنا المستقرة عن الوفاء بمسئوليات الكنيسة تجاه الرعية، قياساً على أهدافها الصحيحة، لا تغازل العالم ولا تزاحمه فى صراعاته، ليس فيما يتعلق بقواعد وأسس الإيمان والثوابت اللاهوتية، بل فى وسائلها. لدينا العديد من الأمور والقضايا المفارقة لصحيحها الآبائى والكتابى، ولدينا إشكاليات تضخمت فيها الذات وتشابكت مع المصالح الضيقة، هل يمكننا أن نقر بالانفصال المعرفى فى بعض الموروثات مع لاهوت كنيسة الآباء بفعل الضغوط التاريخية التى اجتاحتنا، وبفعل الانتقال من يونانية الكنيسة الأولى إلى قبطية العصر الوسيط إلى عربية العصور التالية، الذى لم يواكبه تواصل جيلى معرفى لاهوتى مدقق؟ لدينا تصورات تحتاج إلى ضبط مفاهيمى موضوعى فى دوائر الرعاية والتعليم والرهبنة، والسلطة الكهنوتية، ولدينا حاجة ملحة إلى صياغات أكثر وضوحاً فى دائرة لاهوت الأسرار، المعنى والمبنى والمضمون والممارسة، والإجابة دون أن تلاحقنا كتائب التكفير والتشكيك على أسئلة مسكوت عنها، فيما استقر بيننا فى مفهوم «الاعتراف» وارتباطه بالكاهن وقياسه على تسليم الكنيسة الأولى، وتخليصه من إضافات انحرفت به عن غايته، ومواجهة المقارنات المجحفة بين البتولية والزواج التى تسللت إلينا بغير أساس، والتى تقف وراء غالبية الأزمات الزوجية، التى تنتهى إلى تدمير الأسرة والوقوف على أبواب محاكم الأسرة والمجلس الإكليريكى بحثاً عن الطلاق وتداعياته التى تهدد سلام الأسرة والكنيسة. أدرك أن هذا يتصادم مع ما استقر بيننا لأجيال وربما لقرون، وقد يترجم هذا إلى صدامات مع من استقرت لهم وضعيات تميزية وظيفية كنسية واجتماعية، يصعب الاقتراب منها، أو تحريكها وقد تحصنت بتأويلات نصوصية تدخلهم فى دائرة الحصانة المقدسة، لكن مسئولية التصحيح تتجاوزها، لحساب تحقيق رسالة الكنيسة والخدمة. أنتظر أن تدرس الكنيسة «قداسة البابا تواضروس الثانى ومجمع الآباء الأساقفة» الترتيب لمؤتمر علمى يناقش حاجات الكنيسة المعاصرة، وكيفية تنقيتها من مدخلات تسللت إليها واستقرت فيها وتشابهت مع التسليم الآبائى، حتى تنطلق مجدداً لفعل بنائى مثمر.