الكنيسة مؤسسة فى وطن، والأقباط مكون فاعل تاريخى وحاضر فى شعب عريق متجدد، وتجديد الجزء يصب بالضرورة فى الكل، لذلك يصبح الشأن القبطى هو بالأساس شأناً مصرياً، ووفقاً لقواعد العلوم السيسيولوجية تملك الجماعة القبطية مكنة دعم قاطرة التغيير والانطلاق بمصر إلى آفاق التنوير والتطور. وبفعل المكانة المتقدمة للمكون الدينى فى الشخصية المصرية يكون تجديد الخطاب الدينى القبطى وجوبياً، لأن آثاره وفقاً لجدلية العلاقة بين الفعل ورد الفعل تمتد خارج الإطار القبطى، فى الحياة اليومية والعلاقات الحياتية، فمن خلالها نعيد إحياء القيم التى يحتاجها المجتمع المصرى؛ المحبة والعطاء والإيثار والبذل والأمانة والجدية، والتآخى، وفيها تلتقى الشرائع السماوية فى صحيحها. ولا يمكن تجديد هذا الخطاب دون أن نلتفت لمنظومة التعليم، وضبطها على ما تسلمته من الكنيسة الأولى، بإيقاع العصر وأدواته، ولما كانت الكنيسة منظومة هيراركية (هرمية الترتيب) فتجديد منظومة التعليم فيها يطال محورين؛ الرهبنة والمعاهد الدينية (الإكليريكيات)، فالأولى تمد الكنيسة بالقيادات العليا (الأساقفة والمطارنة والأب البطريرك)، والثانية تعد الآباء الكهنة وخدام الشباب. وحتى نصل إلى نتائج حقيقية وإيجابية ومستدامة تتجاوز انفعال اللحظة لا بد من تأسيس مركز دراسات يتوافر على الأبحاث العلمية: لاهوتية وتاريخية وإدارية وغيرها، يدعم بالإمكانات اللازمة، ويمكن البدء بإعادة هيكلة أسقفيتى التعليم والبحث العلمى بعد دمجهما فى كيان واحد تسند إدارته إلى مجلس أعلى يمثل فيه الجهات الكنسية ذات الصلة، ويتبع مباشرة قداسة البابا. ولعلنا ما زلنا نذكر أن مدرسة الإسكندرية التى كانت واحدة من منارات التنوير فى مرحلتيها اليونانية والقبطية عندما تعرضت للاستهداف من الإمبراطورية الرومانية انتقلت وتحصنت بالأديرة المصرية، دير الأنبا مقار تحديداً، وكانت الكنيسة تختار بطاركتها من علماء وأساتذة تلك المدرسة ثم ذهبت وراءهم عندما تحصنت بالدير لتختارهم من رهبانه كامتداد للعلماء. ولا يمكن تصور تجديد دون أن نعيد التواصل المعرفى الذى انقطع، كما أشرنا سلفاً، على مرتين مع انتقالنا لأسباب تاريخية من اليونانية. وتجدر الإشارة والإشادة بزيارة قداسة البابا تواضروس لدير أنبا مقار مؤخراً، ولعله شاهد عن قرب تجربته فى مضمار الترجمة والبحث والتوثيق الآبائى فيه، ومنتجه الفكرى المتعمق الذى يقاوم اختلالات التعليم الانطباعى التى تسللت فى مراحل التراجع التعليمى قبلاً، وهى تجربة يمكن أن نراكم عليها لتنقية التراث، الحلم الأثير لقداسة البابا الراحل الأنبا شنودة، الذى أعاقه عن تفعيله موجات التحديات السياسية العاتية التى جابهته. وتنقية التراث، لاهوتاً وطقساً وممارسات، سيخفف الحمل عن كاهل الكنيسة وينطلق بها إلى تواصل صحيح مع العصر ومع الأجيال الواعدة ويدعم مواجهتها لموجات الإلحاد وموجات تراجع الوجود الشبابى فى الكنيسة، وسيضخ دماء جديدة فى مفاصل الخدمة على مستوياتها المتعددة. على أن تجديد الخطاب الدينى القبطى سيواجه بمقاومة عاتية شأن كل الحركات التجديدية ممن يرون فى القديم الكمال بعينه، وممن استقرت لهم مراكز قانونية وكنسية يرتبط بقاؤها ببقاء الحال على ما هو عليه، وغيرهم ممن يرون أن التجديد سيصب فى دعم الحميمية المصرية والتقارب القيمى بين الأديان، ومن ثم يقوض مسعى تفكيكها. دعونا نقتحم دائرة التجديد ونعبر للعالم بقيمنا التى يحتاجها ويطلبها، والتى ستترجم يوماً إلى مدرسة ومستشفى وفعل محبة على الأرض، كما فعل أسلافنا المصريون العظماء.