فى هذا العالم الذى نعيشه، عالم ما بعد الحداثة، وما بعد سقوط الأيديولوجيات القومية فى ألمانيا النازية، ومن بعدها الاشتراكية، وصولاً إلى فشل الأفكار الدينية الشمولية فى الدول الإسلامية والعربية مؤخراً، انتصر الفرد، أى الإنسان المتفرد بصفاته وميزاته، على فكرة التكتلات الجماعية. ويبدو أن «فردانية» الإنسان، أى استقلاله بذاته وبقدراته وبعقله، قد بدأت تزعزع نظرية «العقل الجمْعى» القائلة بأن للجماهير سلوكاً عاماً يحركها، يرتكز على تكتلها وإيمانها بفكرة ما، فى حين أنها لا تدرك هذه الحقيقة. فلقد أدت سهولة وصول الأفراد إلى المعرفة بمصادرها المختلفة: التحليلية والبحثية والتوثيقية والنقلية، إلى سقوط الوسائط بين الإنسان واستنباط الحقائق والتوصل، لوحده، إلى نتائج خاصة به. وأصبح الأفراد، لا الدول وحدها أو الجماعات أو الأحزاب، هم المؤثرين فى ساحة الفكر الإنسانى والحراك الحضارى. فحتى الصينى الذى كان منغلقاً على نفسه وذائباً فى جموع الجماهير، أصبح مستقلاً، يسافر ليعمل خارج بلده، يفتح محلاً صغيراً فى عاصمة عملاقة، يستمد قوته من تجارته والخدمات التى يقدمها. لا يربطه بالصين إلا «الحى الصينى» الذى يعمل فيه، ليس لأنه يُريد الحياة فى جماعة، بل لأن تلك الأحياء الصينية صارت مراكز جذب للسياح والأموال. ولقد كانت الفردانية من أبرز سمات عصر النهضة الأوروبية التى امتدت من إيطاليا إلى بريطانيا، فلولاها لما ظهر مايكل أنجلو وجون لوك وفولتير وإيمانويل كانت وغيرهم. فإصرار هؤلاء وكثير من مبدعى وفلاسفة القرون (السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر) ساهم فى استعادة مكانة الفرد، وإعلاء العقل، وتمكين القدرات الفردية وتعزيزها، مما عجّل بخلق بيئة مبدعة، متسائلة، لا تنظر إلى الحياة بعين الآخرين، وترفض الوصاية الفكرية التى تؤدى إلى ضيق الأفق، وبالتالى إلى الجهل والتطرف. ثم جاء الفيلسوف الإنجليزى (جون ستيوارت مِل) وقال إن حرية التعبير أمر ضرورى لتطور المجتمعات. فالناس تكون أكثر قدرة على رفض المعتقدات الخاطئة عندما تنخرط فى نقاش علنى ومفتوح للأفكار؛ لأن تلاقح الأفكار بحرية يحمى الإنسان من الانخراط فى الدوغمائية (أى التعصب لرأى واحد)، فالتعصب نتيجة طبيعية للكبت وليس للحرية، وبالتالى فإن ظروف الحريات فى مختلف ميادين الحياة هى التى تحدد مستوى إبداع الأفراد وبالتالى مجتمعاتهم. هذا لا يعنى أن المستقبل لإلغاء الأسرة أو الدولة، ولكنه يعنى أن الدولة أو الأسرة (أو القبيلة) تحتاج إلى استيعاب أن الجيل الجديد لا يمكن تقييده بالقيم التقليدية التى نشأت عليها. وهذه الفردانية لا تعنى الخروج عن القيم السائدة، بل تعنى الخروج من المزاج الذهنى التقليدى فى الفن والفكر والعمل الإبداعى أياً كان نوعه. فالكاتب الذى يكتب ضمن التوجهات السائدة، والملحّن الذى يضع نوتته الموسيقية تماشياً مع الذوق العام، والفنان التشكيلى الذى يخشى إنتاج الغريب وغير المألوف والصادم أحياناً، لن يستطيع أن يبدع أو حتى يواكب التغيرات العالمية فى مجاله. لكن (مِل) نفسه صاحب نظرية الحرية الاجتماعية، يؤكد فى السياق نفسه أن حرية الفرد تنتهى عند حدود حرية الآخرين؛ فالحرية المطلقة فكرة مدمرة، ليس للأخلاق والقيم فقط، بل حتى للإبداع الإنسانى الذى يصير فى تلك الظروف مشوهاً وثائراً على الذوق والأعراف الإنسانية. وهو نفسه الذى دعا لحرية الأفراد فى علاقتهم مع الحكومة يدعو الحكومة لاتخاذ أقسى التدابير ضد من يحاول زعزعة أمن المجتمع. إذن، الفردانية لا تعنى التحرر المطلق وخلق فوضى بدعوى الحرية والإبداع، ولكنها تعنى الموازنة بين احترام المجتمع، واستقلالية الفرد عنه، فى المدى الذى يخدم الإبداع الإنسانى، ويطلق عنان الأفكار، ويدفع بالخيال المنتِج للنظريات والآراء والاختراعات إلى حده الأقصى. إن فرض طوق رقابة على المعتقدات والأفكار الخلاّقة لم يعد ممكناً فى ظل ظروف العالم الذى نعيشه، ومحاولة «قولبة» الإبداع الإنسانى فى أُطر مجهزة مسبقاً، أمر غير ممكن. فعصرنا هو عصر أفراد بامتياز، يمكن لشخص واحد، كستيف جوبز، أن يغير خارطة التفاعل الكونى الإنسانى. ويمكن لفكرة آن أوانها، كالإعلام الاجتماعى، أن تغير مفاهيم راسخة كالصحافة الكلاسيكية، وكبت الحريات، وخداع البسطاء الذين لم ينالوا حظاً وافراً من المعرفة. إن الفضاء الذى عاش فيه جوبز وزوكربيرغ (مخترع فيس بوك) وغيرهما ممن أبدعوا إنتاجات إنسانية ما زال العالم غير مستوعب لآثارها، حرىُ بِنَا أن نتأمله ونحترمه ونقف عنده طويلاً. فى نهايات عصور الظلام الأوروبية قام «الإنسانيون» باستخدام آيات من القرآن الكريم كآية «ولقد كرّمنا بنى آدم» للدلالة على أهمية الفرد، واستخدموا حججهم تلك للوقوف فى وجه الكنيسة المتعسفة ضد فكرة الفردانية واستقلال الإنسان بآرائه وإبداعاته الفردية. وكتب أحد أشهر رجالهم مرة، وهو الفيلسوف اللاهوتى بيكو ديلا ميراندولا: «قرأتُ فى كتب العرب أنه ليس فى الكون شىء أكثر روعة من الإنسان». وعندما أعطى النبى -صلى الله عليه وسلم- الراية يوم خيبر إلى على رضى الله عنه، قال على: «يا رسول الله، أُقاتلهم حتى يكونوا مثلنا». فرد عليه النبى رداً جميلاً اَخْتَصِرُه فى قوله: «فوالله لئن يهدى الله بك (رجلاً واحداً) خير لك من أن يكون لك حمر النعم».