هناك مبدأ اقتصادى اتفقت عليه جميع النظريات الاقتصادية، وهو مبدأ تحديد السعر من خلال قوى العرض والطلب وتأثير ذلك على الأرباح أو الخسائر الخاصة بالشركات، وعلى منفعة المستهلك، ففى الفترات التى تتسم بتراجع الطلب مقابل ثبات أو زيادة العرض ينخفض السعر وترتفع منفعة المستهلك بينما تتراجع أرباح الشركات، أما فى الأوقات التى يزيد فيها الطلب على العرض فترتفع الأسعار وتتراجع منفعة المستهلك لصالح تضخم وتضاعف أرباح الشركات. ومع كل أزمة اقتصادية نشهد هاتين الظاهرتين، فالفترات التى يضرب فيها الركود الاقتصاد تتسم بانخفاض الأسعار ومشكلات كبرى لدى الشركات، وتلك هى الفترة التى تزامنت مع ذروة جائحة كورونا. إلا أن الفترة المقبلة المتمثلة فى العام أو العامين المقبلين سيكون الوضع مغايراً تماماً لما هو عليه الآن. وتتمثل أغلب الأزمات الاقتصادية المثارة عالمياً خلال الفترة الحالية فى: أزمات «سلاسل التوريد» و«الطاقة» تدفع التضخم لارتفاعات متواصلة أولاً: أزمة سلاسل التوريد أو الإمدادات وهى الأزمة التى يعانى منها عدد من القطاعات الإنتاجية حالياً نتيجة لعدم انتظام سلاسل التوريد لمدخلات الإنتاج، ويتصدر المشهد فى هذه الأزمة قطاع السيارات الذى يمر بأزمة حقيقية ضربت أغلب الشركات المنتجة للسيارات بسبب نقص توريد الرقائق الإلكترونية التى تعتبر أحد أهم العناصر الأساسية فى صناعة السيارات. 3 عوامل تعزز من أداء اقتصاد مصر وسط أزمات العالم ودفعت هذه الأزمة لتوقف العديد من مصانع السيارات حول العالم، ونتج عنها أيضاً زيادات كبيرة فى أسعار السيارات سواء عن طريق الوكلاء الرسميين للسيارات، أو عن طريق المعارض لتطبيق ظاهرة ما يعرف ب«الأوفر برايس» فى سوق السيارات المصرية. حيث وصلت الزيادات التى شهدتها السيارات الأكثر انتشاراً فى السوق المصرية من الفئة المتوسطة من خلال الوكيل 20: 30 ألف جنيه خلال الشهور الماضية، وأضافت المعارض على هذه الزيادة 30: 50 ألف جنيه أخرى للتسليم الفورى، نتيجة لأن الوكلاء يقومون بالحجز الحالى والتسليم الآجل بعد عدة أشهر غالباً. ومن المتوقع أن تستمر هذه الأزمة لمرحلة مقبلة قد تتخطى عام 2022 بالكامل، نتيجة لعدم قدرة مصانع الرقائق الإلكترونية على توفير طلبيات شركات السيارات والهواتف المحمولة وغيرها من المنتجات التى تعتمد على هذه الرقائق. وبالتالى ستؤثر هذه الأزمة على إنتاج قطاعات صناعية استراتيجية ومهمة، وبالتبعية على الناتج العالمى ومعدلات نموه المتوقعة للفترة المقبلة. ثانياً: أزمة الطاقة العالمية تواجه دول القارة الأوروبية أزمة متفاقمة فى إمدادات الطاقة بمختلف أنواعها، لتعرقل بذلك عملية الانتعاش الاقتصادى، وستؤثر أزمة إمدادات الطاقة بشكل مباشر على إنتاج العديد من القطاعات، وقد تقود لزيادات سعرية مؤثرة فى العديد من البنود السلعية، خاصة أن نقص إمدادات الطاقة غالباً ما تستغرق معالجته فترة زمنية طويلة نسبياً نظراً لانخفاض مرونة الإنتاج فى هذا القطاع الاستراتيجى. وبالتزامن مع هذه الأزمة شهدت أسعار النفط ارتفاعات متتالية خلال الفترة الماضية حيث وصل خام برنت إلى أعلى سعر له فى ثلاث سنوات عند 86.10 دولار الخميس الماضى، قبل أن يسجل تراجعاً طفيفاً فى نهاية تعاملات الأسبوع بنسبة 0.9%. وبالتالى أثرت وستؤثر هذه الزيادات فى أسعار النفط على أسعار أغلب السلع والخدمات، وهو الأمر الذى دفع الحكومة المصرية لوضع زيادة بنحو 25 قرشاً على سعر لتر البنزين فى المراجعة الأخيرة لأسعاره التى تمت الشهر الحالى. الديون العالمية تتفاقم إلى مستويات تاريخية بقيادة الولاياتالمتحدة ثالثاً: تصاعد حجم الديون العالمية أظهر أحدث تقرير لمعهد التمويل الدولى، ارتفاع حجم الديون العالمية إلى مستويات غير مسبوقة بلغت حوالى 300 تريليون دولار بنهاية الربع الثالث من 2021، بزيادة قدرها 4.8 تريليون دولار عن الربع السابق وبنحو 36 تريليون دولار قبل جائحة كورونا. وبالنسبة إلى حجم ديون الأسواق الناشئة، ارتفعت بوتيرة أسرع لتصل إلى حوالى 92 تريليون جنيه خلال الربع الثانى من عام 2021. وتمثل هذه الزيادات المتواصلة فى الديون العالمية جرس إنذار لضرورة توخى الاقتصاديات المختلفة لمزيد من الحذر وضرورة توجه الحكومات لسياسات مالية أكثر ترشيداً للنفقات، حفاظاً على مستويات الديون عند معدلات آمنة، وبالتالى ستدفع هذه السياسات المالية المحافظة أو التى تميل للانكماش إلى تراجع وتيرة التعافى الاقتصادى الذى يتطلب المزيد من النفقات العامة فى مختلف البلدان. واتساقاً مع هذه الأزمة، وبالنظر إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية -أكبر اقتصادات العالم- فقد شهد حجم الدين العام فيها زيادات تاريخية وصلت إلى مستوى 28.4 تريليون دولار بنسبة 127.5% من الناتج المحلى الإجمالى فى نهاية الربع الأول من العام الحالى، وفقاً لصندوق النقد الدولى، وهو ما لم يحدث من قبل فى تاريخ الاقتصاد الأمريكى حتى مع تداعيات الحرب العالمية الثانية والأزمة المالية العالمية 2008. وذلك ما بررته وزيرة الخزانة الأمريكية بأن عدم الاقتراض سيؤثر فى 30 مليون عائلة ممن يحصلون على دعم مالى لأطفالهم، ولن يتحصل نحو 50 مليون متقاعد على معاشات التقاعد، وسترتفع البطالة. الاقتصاديون يؤكدون: العالم دخل في «دورة فائقة خامسة» «الاتجاه للسوق الأفريقية» و«اتباع سياسات مالية ونقدية متوازنة» و«الإعلان عن توجهات المرحلة المقبلة» وبالتالى يتوقع الاقتصاديون أن تدفع هذه الأزمة لمزيد من الحذر فى التعامل مع الاقتصاد الأمريكى، وقد تؤثر على اتجاهات بيع أدوات الدين فى مختلف الأسواق، وستمارس ضغطاً شبه مؤكد على تعافى الاقتصاد العالمى فى المرحلة المقبلة. رابعاً: دورة فائقة جديدة نتيجة الأزمات السابقة يعانى العالم أجمع خلال المرحلة الحالية من ارتفاع أسعار السلع بشكل مستمر، وهو ما أدخل السوق العالمية فى تطور جديد معروف بين الاقتصاديين باسم «الدورة الفائقة» وهى التى تعبر عن زيادة أسعار السلع والخدمات بشكل مستمر يصل إلى عدة أعوام وليس شهوراً. وشهد العالم فى العصر الحديث 4 دورات فائقة كان آخرها تلك التى انطلقت مع تطور التصنيع فى الصين وطلبها على مواد البناء والطاقة لتطوير البنية التحتية لديها وكان ذلك فى مطلع الألفية الثالثة، بينما يؤكد المحللون أن العالم دخل بالفعل فى الدورة الفائقة الخامسة وهى التى تهدد انتعاش الاقتصاد العالمى، وستبقيه يعانى من معدلات تضخم عالية وركود نسبى لفترة طويلة مقبلة. وتأتى الأرقام فى مصر لتتسق مع تطورات التضخم العالمى حيث ارتفع معدل التضخم إلى 8% بنهاية سبتمبر الماضى مقابل 6.4% فى أغسطس السابق عليه، وهو ما يضع مزيداً من الضغوط على شكل السياسة النقدية المتبعة، وقد يؤثر على قرار البنك المركزى فى اجتماع لجنة السياسة النقدية الخميس المقبل. اتجاهات النمو عالمياً توقع صندوق النقد الدولى فى أحدث تقرير لآفاق الاقتصاد العالمى لشهر أكتوبر، أن يحقق نمو الاقتصاد العالمى 5.9% خلال عام 2021، مدفوعاً بتراجع سنة الأساس، و4.9% خلال عام 2022، وعلى الصعيد المحلى رفع صندوق النقد توقعاته لنمو الاقتصاد المصرى، ليحقق نمو الناتج المحلى الإجمالى 3.3% خلال 2021، وتزايد معدلات نمو الناتج المحلى الإجمالى لتصل إلى 5.2% خلال 2022، ثم 5.8% خلال عام 2026. وعلى الرغم من هذه المعدلات المتفائلة لنمو الاقتصاد العالمى، فإنه سيظل يعانى العديد من الصعوبات فى بلوغ الأداء الاقتصادى قبل أزمة كورونا، وسيظل يعانى أيضاً من الكثير من العثرات التى قد تحول بينه وبين تحقيق معدلات النمو المستهدفة. مصر والتعامل الأمثل نجحت مصر خلال المرحلة الماضية فى بناء اقتصادها بشكل جيد، وتوفير كل مقومات النمو، من خلال تنفيذ برنامج إصلاحى متقن خلال الفترة 2016: 2019 وهذا الأمر دعمها بشكل كبير أمام مختلف الأزمات الاقتصادية التى يعيشها العالم الآن، ومن المتوقع أن يستمر الاقتصاد المصرى فى تحقيق معدلات أداء قياسية خلال المرحلة المقبلة بعد أن سجل فى عام 2019 ثالث أسرع اقتصاد نمواً فى العالم، وسجل فى عام جائحة كورونا أسرع الاقتصاديات نمواً فى الشرق الأوسط وجميع الأسواق الناشئة. ومن الأفضل أن يستمر صناع السياسات الاقتصادية فى اتباع سياسات متوازنة على الصعيدين النقدى والمالى، تحافظ على القوة الشرائية للأفراد دون تأثير مباشر على الاستثمار المباشر وغير المباشر، وبالتالى على النمو، مع ضرورة الإعلان عن توجه المرحلة المقبلة لتحقيق المزيد من طمأنة مختلف أطراف المنظومة الاقتصادية، خاصة فى ظل الاضطرابات المختلفة التى تضرب الأسواق العالمية. ومن الجيد أيضاً أن تتجه الحكومة المصرية فى المرحلة الحالية جنوباً إلى أسواق أفريقيا لتعزز من وجودها هناك، وتبنى علاقات طويلة الأجل مع هذه الأسواق البكر التى تتسم بتوافر المواد الخام، والطلب المرتفع المتوقع فى المستقبل، وهو ما قد يصنع منفذاً مناسباً لتعويض أى نقص فى الطلب العالمى على صادرات مصر وتحديداً من قارات أوروبا وآسيا، نتيجة الأزمات التى تشهدها تلك الأسواق.