انتشر مقطع فيديو على «يوتيوب» يُظهر الممثل الأمريكى الشهير بِن أفْلِك، فى حوار مع المقدم بِل مار، والكاتب سام هارِس عالم الأعصاب الأمريكى والملحد الشهير الذى تصدرت كتبه قوائم الأكثر مبيعاً. كان «بِل وسام» يهاجمان الإسلام بشدة ويتهمانه بأنه دين «إرهابى وعنصرى لا يحترم حقوق المرأة والمثليين وحريات التعبير»، وهو أيضاً دين «يؤمن أتباعه بواجب الجهاد ضد العالَم غير المسلم». وفى المقابل، كان «بِن» يدافع عن الإسلام بتخبط ولكن بعاطفة، مما حَدا بآلاف المسلمين فى «فيس بوك وتويتر» لنشر المقطع والثناء عليه. لكن المتابع للمقطع كاملاً يجد أن «بن» فشل فى الدفاع عن الإسلام! فشل لأن سام هارس ليس كاتباً عادياً، بل باحث محترف، وناقد شرس للأديان التى يرفض أن ينصبها مثالاً للأخلاق والروحانيات. ورغم اختلافى معه جداً، خصوصاً فى تهجمه على الإسلام، فإن ما قاله هو و«بِل» يدعو المرء للتوقف قليلاً، فلقد ذكرا إحصائية لا أعلم مدى صحتها تقول إن 90٪ من الشباب المصرى يعتقد بأن «المُرتد» يجب أن يُقتل. ثم وجّها حديثهما ل«بِن» سائلين: أليس هذا ديناً راديكالياً؟! ورغم أن حَدّ الرِّدة موضوع جدل بين علماء المسلمين، إلا أن بِن أفلك لا يمكنه معرفة تلك التفاصيل. ولكن السؤال هو: كيف اقتنع تسعون بالمائة من الشباب بوجوب قتل المرتد رغم الخلاف الشديد حول الحد؟ مرة أخرى، لستُ متأكداً من صحة الرقم، ولكن تساءَل بينك وبين نفسك الآن: هل تعتقد بأن القتل هو جزاء المرتد عن الإسلام؟ إن من يُتابع ما يُكتب فى وسائل التواصل الاجتماعى، ومن خلال قراءة المقررات المدرسية، ومن خلال الاستماع إلى خطب الجمعة، يجد أن فكرة الحرب والقتال والانتقام متأصلة بعمق فى العقل الإسلامى المعاصر. فقبل أيام دعا الإمام فى خطبة العيد قائلاً: «اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين»، وهو دعاء نسمعه فى نهاية كل خطبة جمعة، فتساءلتُ وأنا على وشك الانطلاق للسلام على الناس صباح العيد: ينصرنا على مَن؟ على أصدقائنا من غير المسلمين الذين يهنّئوننا بالعيد؟ ويذل من؟ الأطباء «المشركين» الذين يعالجوننا من الأورام والأمراض الخبيثة؟ لم أستطع أن أفهم كيف أدعو على هؤلاء بالذلة والهزيمة ثم أقول إن دينى دين سلام ورحمة! ولذلك فإننى لم أفرح برد بن أفلك العاطفى لأننا نحتاج، قبل أن نتحمس لمثل هذه المواقف النبيلة، أن نُقرّ بأن لدينا مشكلة فهم وتطبيق للنصوص الشرعية. وهناك الكثير من الأفكار المترسخة فى العقل الإسلامى تتطلّب مراجعات جادة وشجاعة، مثلما فعل الشيخ عبدالله بن بيّه عندما دعا لمؤتمر ماردين، وهى المدينة التى أُطْلِقَ اسمها على فتوى ابن تيمية الشهيرة ب«بفتوى ماردين». حيث سُئل حينها إن كانت المدينة دار حرب أم دار إسلام بعد أن احتلها التتار؟ وهل على المسلم أن يهاجر أم يبقى؟ وإن بقى فهل يأثم؟ فأجاب (رحمه الله) إجابة أَختَصِرُها فيما جاء فى نهايتها: «ليست بمنزلة دار السلم التى تجرى عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين. ولا بمنزلة دار الحرب التى أهلها كفار، بل هى قسم ثالث يعامَل المسلم فيها بما يستحقه، (ويقاتَل) الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه»، وهى فتوى ارتكز عليها تنظيم القاعدة فى عملياته التفجيرية، ولكن الشيخ بن بيه (حفظه الله) عندما درس المخطوط الأصلى بعناية وبمساعدة مختصين، اكتشفوا أن شيخ الإسلام لم يكتب «ويقاتَل» حيث لا تصح فى سياق المعنى ولا اللغة، بل كتب «ويعامَل»، وبذلك تغير المعنى كلياً؛ فارتبك المستغلون للفتوى، وأطلقت القاعدة بيانات ترفض مراجعات مؤتمر ماردين. وقبل أقل من عام، تحدّث الشيخ بن بيّه بصراحة وبجرأة عن وجوب تعليق الجهاد بمفهوم المتطرفين اليوم، وقال إن «القتال» ليس هو فقط المقصود بالجهاد. وأصّل ذلك فى قوله عليه الصلاة والسلام: «والمجاهد من جاهد نفسه فى طاعة الله» وقوله فى بر الوالدين «ففيهما فجاهد» وفى غيرهما من المواضع. حيث كان القتال ضرورياً فى الأزمنة المنصرمة لأن النظام العالمى حينها كان مُركّبا بتلك الطريقة، فكل أمة توسع حدود دولتها لتضمن بقاءها. أما اليوم، فلقد حلّت الاتفاقيات الدولية والحدود المعترف بها محل تلك النزاعات، وأصبحت أسلحة الدمار الشامل قادرة على إبادة بلدة كاملة فى دقائق؛ مما يعنى أن «الجهاد» اليوم سيُفْضى إلى إبادات جماعية، وهذا أمرٌ لا يقبله الشرع. نحن فى حاجة اليوم إلى الوقوف مع فكرنا الإسلامى، وكثير من معتقداتنا، وقفة جادة. نراجع عندها مفاهيم كبيرة وخطيرة، كمفهوم الولاء والبراء، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وحقوق الإنسان، والجهاد وغيرها من القنابل الموقوتة التى يؤمن بها غالبية المسلمين دون أن يعرفوا ضوابطها وحدودها. والمراجعة لا تعنى النقض أو الإلغاء، وإنما إعادة التأويل والفهم بناء على مقتضيات الواقع، ثم التنزيل عليه بما يتناسب مع حاجات الإنسان وأحكام الشريعة اللتين لا يمكن أن تتناقضا. وبدون هذه المراجعات سيظل فكر «داعش والقاعدة» وغيرهما من الجماعات الراديكالية متغلغلاً فى بيوتنا، وكتبنا وعقولنا، فالفِكْر لا يُواجَه إلا بالفكر.