لا أتذكر تماماً أين كنت يوم السادس من أكتوبر 1973 الموافق العاشر من رمضان. كنت صغير السن لكنى أكبر إخوتى. أذكر تماماً سماع البيان الثانى للقوات المسلحة وليس الأول. لا أدرى أى يوم فى الشهر كان. نسير ثلاثتنا بصحبة أمى فى الشارع المؤدى إلى قصر عابدين. هناك تقع مدرستى الابتدائية. وهناك تسكن جدتى على بعد مائة متر فقط من المدرسة. كانت أصوات أخى وأختى تصدح بأغنية العندليب «خلى السلاح صاحى». تقريباً كانت الأغنية الرسمية. فجأة يصطدم أخى بالساتر الطوبى أمام أحد المنازل. مشهد تلك السواتر المبنية من طوبتين أو ثلاث بارتفاع مترين إلى مترين ونصف كان اعتيادياً فى الشوارع الرئيسية والحوارى والأزقة. من السيدة زينب إلى عابدين يومياً فى معية الوالدة رحمها الله. لكن الجو استثنائى والنشوة عارمة. النصر حلو. مذاقه رائع ولا يعدله مذاق آخر. كنا مللنا إطفاء الأنوار أثناء الغارات. النزول من البيت إلى المخابئ. اللون الأزرق على زجاج النوافذ واللاصق الورقى الذى يمتد على شكل علامة x. كنت فى أوائل عهدى بصيام رمضان. أردت تحدى نفسى وإثبات أننى كبير للوالد متّعه الله بالصحة. غُرَز فى حاجب أخى الأصغر بمستشفى أحمد ماهر. فى الترام نغنى، رغم البلاستر والقطن الذى غطى وجه شقيقى. فى نفس المسار قبل ثلاث سنوات تقريباً، وتحديداً فى شارع بورسعيد (الخليج العربى سابقاً) سرت على الأقدام مع أمى. كنت أصغر. كانت تتشح بالسواد. دموعها تنهمر بشدة. لون عينيها أميل إلى الاحمرار. الشارع كان يموج بالبشر. لم أدرك أن الشارع الكبير الذى كنت أعتقد أنه الكون ذاته يمكن أن يملأه بشر. الكل يرتدى السواد. صورة مرفوعة والملأ يبكى ويردد: «الوداع يا جمال.. يا حبيب الملايين». والدى أحضر بعضاً من تلك الصور المطبوعة فى دار أخبار اليوم حيث يشرف على المطابع. كنت أشاهد صورة الزعيم الراحل كثيراً، ولكنها المرة الأولى التى أشاهد فيها ذلك الخط الأسود المائل الذى يصنع مثلثاً فى الركن العلوى الأيسر من الصور. ماذا حدث؟ والدى ليس من أولئك الذين يذوبون عشقاً فى الزعيم الراحل. أما أمى فكانت من أشد مؤيديه ومريديه. صورتها وهى تسلم عليه وعلى الرئيس السورى شكرى القوتلى تحتل مكانها على «التسريحة». كانت من بين وفد مدرسة معلمات باب اللوق الذى سافر لتدشين الوحدة مع سوريا والشهادة على ميلاد الجمهورية العربية المتحدة. ناصر مات. (قطع) شتان الفارق بين مرورنا اليوم فى الشارع داخل الترام وبين السير فيه قبل ثلاث سنوات. الوجوه سعيدة. النصر يرسم الضحكة على شفاهها. بين حزن دفين ويأس شهدته قبل ثلاث سنوات من ذلك التاريخ وبين هذه الفرحة الغامرة والرضا الكامل بثقة لا تتزعزع هذه المرة. إنه نصرنا الكبير فى السادس من أكتوبر 1973. حين كنت أغادر ال«بى بى سى» عام 2001 كان أرييل شارون يفوز برئاسة الوزراء فى إسرائيل. أعد نشرة الأخبار لأقرأها. مطلوب منى ترجمة نبذة عن تاريخ حياته كتب فيها المحررون الإنجليز أنه حقق النصر لإسرائيل فى أكتوبر 1973. رفضت ذلك. صعّدت الأمر إلى أكبر رأس. حاولت تعديلها إلى الأبد فى أعينهم: أكتوبر نصر مصرى عريض، لكنهم تركونى أكتب ذلك فقط فى النسخة العربية من الخبر. باقى اللغات خرج فيها شارون منتصراً فى 1973. كذب وإفك. روح أكتوبر ما أحوجنا إليها. اللمة والثقة والفخر. التخطيط والعمل والإنجاز وتحمل الصعاب وحتى الانتقادات. رحم الله السادات، وألف رحمة ونور على كل الأبطال صانعى النصر العظيم منذ لحظات الاستنزاف الأولى. لهذه الأسباب وغيرها أنا مصرى وأفتخر.