صعد «الشيخ زغلول» إلى المنبر، وألقى السلام على المصلين، ثم حمد الله وأثنى عليه وشهد بالوحدانية، ثم صلى على النبى وأجزل له فى الصلاة، وألقى خطبته التى كان موضوعها يدور حول عالمية الإسلام، والحق أنه أجاد، وهو يثبت بما له من علم أن الله أرسل نبيه بالهدى ودين الحق ليكون رسولاً للعالمين، نفى الشيخ ما ردّده بعض المستشرقين من أصحاب «العقول المريضة» والنفوس الموتورة من أن الإسلام دين عنصرى، وقال الشيخ وهو يكاد يصرخ فى وجوه المستشرقين: كيف تقولون ذلك ونحن نقرأ فى فاتحة الكتاب كل يوم فى صلواتنا الخمس: «الحمد لله رب العالمين»، ثم قال الشيخ: الله أيها الناس ليس رباً للعرب فقط، وليس رباً للمصريين فقط، ولا أهل أوروبا ولا أمريكا ولا الهند ولا السند فقط، ولكنه أيها الناس «رب العالمين»، لذلك كان الإسلام ديناً للعالمين، فكيف يا أهل الاستشراق تقولون إن الإسلام دين العرب فقط!؟ ازدرد الشيخ ريقه وهدأت ثائرته، ثم قال: هل تعرفون أن الله أنزل القرآن للناس كافةً؟ نعم، فهو سبحانه القائل: «تَبَارَكَ الَّذِى نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً»، وهو سبحانه القائل أيضاً: «إنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ»، هل تعرفون معنى هذا؟ سكت الشيخ قليلاً ريثما يستجمع أنفاسه، ويثير فضول مستمعيه، ثم استرسل قائلاً: معناه أن القرآن ليس رسالة إلى العرب، ولكنه رسالة إلى كل العالمين. نظر الشيخ إلى وجوه المصلين الذين يستمعون إلى خطبته ليرى أثر كلماته فيهم، وعندما اطمأن إلى خشوع وجوههم، وتعلق أبصارهم به، استمر فى خطبته قائلاً: إن المستشرقين كانوا ولا يزالون يوجّهون سهامهم صوب ديننا الحنيف، ويتهمونه بما ليس فيه، زعموا أن الإسلام لا يعرف السلام والرحمة؟ أبدى الشيخ بقسمات وجهه امتعاضه من تلك الفرية التى يروج لها المستشرقون، ثم قال وهو يرفع صوته: ألم يقرأوا قول الله سبحانه وتعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» هذا هو الإسلام دين الرحمة، فليُرنا أحدهم الرحمة التى فى دينه، رسولنا، صلى الله عليه وسلم، هو الرحمة المهداة من رب الناس إلى الناس أجمعين، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نجادل أهل الكتاب بالتى هى أحسن، فقال لنا فى محكم كتابه «وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ»، انتبه أيها المسلم، وافتح قلبك أيها المستشرق، لم يقل الله لنا جادلوا أهل الكتاب بالحسنى، وقد كانت الحسنى تكفيهم، ولكنه قال وعز من قال: «إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ»، فالحسنى وإن كانت تكفيهم فهى لا تكفينا، فنحن أصحاب دين الرحمة، لذلك كلفنا الله أن نجادلهم بالتى هى أحسن، ثم زيادة فى «الَّتِى هِىَ أَحْسَنُ» أوصانا وقال لنا أن نقول لهم وقت الجدال «وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ». أخذ الشيخ نفساً عميقاً، فالموضوع الذى يتحدث فيه جد خطير، وقد ثارت ثائرته قبل الخطبة من مقال قرأه مترجَماً لأحد أساتذة «علوم الشرق» فى جامعة كندية كان موضوعه يدور حول أن المسلمين حوّلوا دينهم إلى دين عنصرى، استفزه هذا المقال جداً، كيف يكون الإسلام ديناً عنصرياً، وهو دين الرحمة والسلام لكل الناس؟! كيف ذلك، والله خاطب فى القرآن كل الناس، وقال لهم: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ»؟! استجمع الشيخ قواه وقال بصوت هادئ وقور: يا عباد الله إن الإسلام لا يعرف العنصرية أبداً، افهموا ثم تحدثوا، كيف يكون الإسلام عنصرياً ورسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، هو الذى قال فى الحديث الشريف: «لا فرق بين عربى ولا أعجمى إلا بالتقوى»، هل تعرفون أيها الناس أين التقوى؟ هل تظنونها فى بلاد دون بلاد، أو عباد دون عباد، كلا ورب الكعبة، فالرسول، صلى الله عليه وسلم، كان قد أشار إلى قلبه ثم قال: «التقوى هاهنا»، أى أن التقوى فى القلب. تركت كلمات الشيخ أثراً طيباً فى قلوب المستمعين، فاسترسل مؤكداً: ليس كلام المصطفى، صلى الله عليه وسلم، فقط هو الذى قال ذلك، ولكن رب العزة قال فى القرآن الكريم الذى هو «تِبْيَاناً لِكُلِّ شَىْءٍ»، ماذا قال؟ انظر يا عبدالله ماذا قال رب العالمين فى القرآن الكريم، قال: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» وانتبه أيها المسلم إلى أن الخطاب هنا موجه إلى كل الناس، وليس إلى المسلمين فقط، قال «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»، هل استوعبت الآية جيداً أيها المسلم؟ الله يخاطب الناس كل الناس، ويقول لهم إن أكرمكم عند الله أتقاكم، والرسول من قبل قال فى الحديث وهو يشير إلى قلبه «التقوى هاهنا»، ثم يقول الله فى ختام الآية إن الله عليم خبير، لماذا عليم خبير أيها الناس؟ لأنه هو فقط المطلع على قلوب الناس، هو فقط الذى يعرف من المتقى ومن الذى يدّعى التقوى، لذلك قال لنا فى القرآن «فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى»، قال الشيخ كلماته السابقة دفعة واحدة وبحماس زائد فانفعل الناس بها وصاح بعضهم من فرط الانفعال، قائلاً: الله أكبر، فسكت الشيخ برهة ريثما تهدأ النفوس المهتاجة، ثم قال للناس، مذكراً إياهم بعدم الحديث أثناء الخطبة: يا أحباب رسول الله، قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «من قال لصاحبه والإمام يخطب: أنصت، فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له»، فعاد الهدوء إلى المصلين. عاد الشيخ إلى خطبته، وهو فى قمة الهدوء، كلماته هادئة منتقاة، زلاقة لسانه وفصاحته تركت أثراً كبيراً فى المصلين، فما له لا يركن إلى الصوت الخفيض الذى يستعيد به أسماع المصلين، فقال: الإسلام دين العالمين ولو كره الكارهون، دين الرحمة ولو ادعى الأدعياء، دين السلام ولو تقوّل المتقولون، يا عباد الله إن الإسلام دين إنسانى عالمى، يخاطب جميع الأمم دون تفرقة بين جنس أو لون، يستطيع أن يأوى إلى ظله كل إنسان من أهل البسيطة تحت راية الأخوة الإنسانية، فالله يقول للرسول، صلى الله عليه وسلم، «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا» ويقول رب العزة فى كتابه الكريم أيضاً موجهاً الأمر إلى الرسول صلوات الله عليه «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّى رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً»، فهل بعد هذا كله يخرج علينا أصحاب الأحقاد من المستشرقين ليتهموا الإسلام بالمحلية وأنه لا يعرف الرحمة ولا السلام. أكمل الشيخ خطبته الثانية، ثم أخذ يدعو الله، والناس من خلفه تؤمّن على الدعاء، فقال: اللهم عليك باليهود والنصارى ومن والاهم من العلمانيين والليبراليين والاشتراكيين، اللهم أهلكهم عدداً، واقتلهم بدداً، وشتتهم مدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم يتّم أطفالهم ورمّل نساءهم وعقّم أرحامهم وأرّق نومهم وأرنا فيهم يا رب العالمين عجائب قدرتك، اللهم اشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم ارحم موتانا وموتى المسلمين، اللهم إن المدارس والجامعات على الأبواب فاجعل النجاح حليفاً للطلاب المسلمين، اللهم ارزق المسلمين فى كل أنحاء الدنيا الرزق الوفير، والخير العميم.. وانتهى الشيخ من الدعاء للمسلمين والدعاء على غير المسلمين ثم نزل من على المنبر وهو يحمد الله ليؤم الصلاة.