الجيش الأمريكي: جماعة الحوثي أطلقت صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر    الشرطة الألمانية تفض بالقوة اعتصاما داعما لفلسطين في برلين    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    مجلس جامعة كولومبيا يصوت على قرار للتحقيق مع الإدارة بعد استدعاء الشرطة لطلبة متضامنين مع غزة    4 أيام متواصلة.. تعرف على عطلة شم النسيم وعيد العمال والإجازات الرسمية حتى نهاية 2024    اليوم.. جلسة محاكمة مرتضى منصور بتهمة سب وقذف عمرو أديب    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    واشنطن تعلن عن مساعدات عسكرية لأوكرانيا بقيمة 6 مليارات دولار    استشهاد شابين فلسطينيين في اشتباكات مع الاحتلال بمحيط حاجز سالم قرب جنين    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    حقيقة انفصال أحمد السقا ومها الصغير.. بوست على الفيسبوك أثار الجدل    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    عاد لينتقم، خالد بيبو: أنا جامد يا كابتن سيد واحنا بنكسب في الملعب مش بنخبي كور    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    رسميًا.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم السبت 27 إبريل بعد الانخفاض الآخير بالبنوك    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    رسالة هامة من الداخلية لأصحاب السيارات المتروكة في الشوارع    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    2.4 مليار دولار.. صندوق النقد الدولي: شرائح قرض مصر في هذه المواعيد    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    محمد هلب: السيارات الكهربائية بمثابة مشروع قومى لمصر    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    حريق يلتهم شقة بالإسكندرية وإصابة سكانها بحالة اختناق (صور)    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    العراق.. تفاصيل مقتل تيك توكر شهيرة بالرصاص أمام منزلها    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    "أسوشيتدبرس": أبرز الجامعات الأمريكية المشاركة في الاحتجاجات ضد حرب غزة    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    وسام أبو علي يدخل تاريخ الأهلي الأفريقي في ليلة التأهل للنهائي    في سهرة كاملة العدد.. الأوبرا تحتفل بعيد تحرير سيناء (صور)    علي الطيب: مسلسل مليحة أحدث حالة من القلق في إسرائيل    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    سعر السبيكة الذهب اليوم وعيار 21 الآن ببداية التعاملات السبت 27 إبريل 2024    رغم قرارات حكومة الانقلاب.. أسعار السلع تواصل ارتفاعها في الأسواق    مقتل 4 عمّال يمنيين بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    استئصال ورم سرطاني لمصابين من غزة بمستشفى سيدي غازي بكفر الشيخ    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحلقة الثانية : الثائر والمبشر والرسول الجديد
نشر في الوطن يوم 26 - 07 - 2021

في "الجمهوريّة"، 4 ديسمبر 74، دراسة نقدية لعليّ قنديل، تتصدّرها مقدمة قصيرة للشّاعر الكبير محسن الخيّاط، بعنوان "أدب شاب.. ونقّاد شباب": "أسعد كثيرًا عندما أحسّ بأن حركة نقدية تنمو من خلال الأدباء الشبّان أنفسهم، هذه الحركة البكر التي تتضح معالمها يومًا بعد يوم، وتتخلق بأصالة في قلب الحركة الأدبية خارج القاهرة، بعيدًا عما ران على حركة النّقد بالقاهرة من صدأ وما اعتراها من شيخوخة، وما أصاب بعض جوانبها بالهوى والبعد عن الموضوعيّة، قدّم هذا الباب عددًا من الأدباء كتابًا وشعراء ونقّادًا، ويسعده اليوم أن يقدّم أديبًا شابًا يمارس النّقد بوعي الشّباب وموضوعيّته، والناقد الشّاب هو عليّ قنديل في مقالته النقديّة عن الشّاعر عبد الدايم الشّاذليّ".
"الجمهوريّة" 4 ديسمبر 74
رأي "عليّ" في مقاله أن "الروّاد الأوائل في شعر العاميّة لعبوا في الاتجاه به إلى منطقة التفجيرات الشّعريّة، وأصبح على الأجيال التالية أن تعمّقها وتضيئها من شتّى الزوايا. إن القول بأن شعر العاميّة لا يصلح إلا كفن دعائيّ ولا ينمو إلا بين الأميّين وأنصاف المثقّفين قول متعسّف، يقف ضده الشّاعر الذي نقدّمه الآن". ستتواتر مثل هذه المقولة "التفجيرات الشّعريّة" وغيرها في كامل البناء النقديّ لتجربة شعر السّبعينات بعد ذلك، سوف يوسّع الرّفاق نظريّات "عليّ" حول الكتابة الجديدة وأهدافها، بعد أن ينجز كل واحد من هؤلاء الشّعراء الشبّان، المتن الرئيسيّ في مشروعه الشّعريّ، ويستوي على قدميه ناقدًا، لكن "عليّا" سيظل في صدورهم وعقولهم على الدوام، ذكرى متجدّدة وملهمة، لعله كان يدفع بكلّ واحد منهم، من حيث لا يدري، إلى أن يماثله، بحسب ماجد يوسف: "شكّل غياب عليّ قنديل صدمة كبيرة، ليس على المستوى الشخصيّ فقط، بل على مستوى الجيل الذي شعر لأوّل مرّة أن له ظهرًا نقديًّا، خصوصًا أن البعد النقديّ لنا لم يستو على عوده إلا بعد سنوات، في هذه المرحلة الباكرة لم تكن أبعادنا النقديّة قد تبلوت في مقولات تخصنا، وليست مقولات مستعارة من الكبار الذين تعهّدوا كتابتنا احتفاءً وتنظيرًا، أو مستعارة من ثقافة الكتب. لم تكن المكوّنات قد هُضمت بعد في قوامٍ خاص يعطي رفعت سلّام مشروعيته كناقد، ويعطي حلمي سالم مشروعيّته كناقد، وكذا جمال وأمجد وكلّ المجموعة، بالإضافة إلى المشروعيّة الشّعريّة. لذلك كان إحساسنا بالفقد مزدوجًا، على المستوى الشخصيّ لما كان يمثله هذا الإنسان الرقيق الراقي الجميل، وهذا الناقد النابه، الذي ينتمي إلينا ويصوغ المقولات النقديّة الجديدة المدافعة عن اتجاهنا".
وكان ماجد يوسف الشّاب ترجم هذا المعني شعريًا في قصيدة له بعنوان "النبوءة"- ديوان "ست الحزن والجمال" 1980: "خرس الحصان/ لحظة ما كان لازم يقول/ خرج الحصان/ مع إنه كان/ بدأ- الحقيقة- في الدخول"، لكن حديث "ماجد" الآن عن "الظّهر النقديّ" الذي شكّله عليّ قنديل لهؤلاء الشّعراء اليافعين قبل أن ينخطف، قد يحتاج أيضًا إلى دليل من الأرشيف:
تحت عنوان "القشّ والوردة"، مجلّة "الشّباب" 8 إبريل 75، يكتب "عليّ" دفاعه "الفروسيّ الذي تفرضه طبيعة وفعاليّة المواجهة" مع الحاضر الشّعريّ: "رشّح الأستاذ صالح جودت بعض الشّعراء ممن تترد أسماؤهم على صفحات "الزّهور" لخلافة الشّعر: يس الفيل، الحسّاني عبد الله، أحمد زرزور، ودعنا من أسئلة كثيرة يثيرها هذا الخبر، لنقل كلمة تقف بالمقابل وتضيء التصوّر الآخر، ومخطئ من يتصوّر أنّها انشغال بالأستاذ صالح وأخباره. إن حسًّا تاريخيّا ما يدفعنا لإثبات هذه الكلمة، فمن الحماقة أن ندع هذا الخبر ونصمت مدّعين التعالي عليه، وعاصمنا في ذلك أنها كلمة نقولها مرة واحدة ونعود لأعمالنا".
عليّ قائدًا لفصيله الشّعريّ: نحن نسرع الخطى للأمام بلهفة ناريّة للمغامرة والاكتشاف
هذه البداية التي لا تبشّر بخير وتنذر بمعركة محتملة، دفعت سيّد حجاب، مشرف باب الثّقافة، إلى التحوّط، بأن كتب في أعلي الصفحة عبارة "رأيّ خاص يعبّر عن صاحبه"، وفي الحقيقة فإن هذا الرأي يعبر أيضًا عن "جمعيّة الشّعراء الثوّار" التي أسّسها هو نفسه في مقر المجلّة، إن علىّ قنديل يتحدث من البداية للنّهاية بصيغة الجمع: "حسن طلب، حلمي سالم، أمجد ريّان، أحمد الحوتي، محمد حسن، وعليّ قنديل، أمثلة قليلة وثمّة الكثير، فتذكروها لأن معظمها لا يحظى بالشّهرة الواسعة، فقد رفضوا الانضمام ل"رابطة الزّهور" بسبب أساسيّ قبل أيّ سبب، هو أنها بهبوطها الثقافيّ والإبداعيّ لا تحتمل قدراتهم. إنهم امتداد تفجيريّ ازدهاريّ لحقيقة الإبداع العربيّ الأول: امرئ القيس، أبو تمّام، والمعريّ، وبهذا فهم يؤلّفون موجة ذات فيض في شلّال الشّعر الجديد من بغداد إلى الجزائر، أما "الخلفاء" فهم في الأغلب تكرار فاقد المعنى والمبرّر لفترة "إن ذنبي والله ذنب كبير".
فهل كلّف أحد "عليًّا" بالتصدّي لصالح جودت وخلفائه، والتبشير بالثوّرة الشّعريّة الجديدة، وتحديد فرسانها بالاسم؟ إنه يؤكد في البداية أن إثبات دفاعه يأتي انطلاقًا من حسٍّ تاريخيٍّ ما، ربما هو الذي دفعه للإشارة إلى البعد الإقليميّ للثّورة الشّعريّة الجديدة من بغداد إلى الجزائر؟ لكن ما هي حدود هذا التصوّر الجديد للكتابة؟ إن الحسّ التاريخيّ السّليم يُملي عليه أن يجيب على السّؤال: ما البديل؟ ويتساءل "عليّ": ماذا في تركة الخلفاء غير شريط من التأوّهات الجنسيّة والتنكيت الممجوج، وشريط آخر من التصوّر "النثريّ" الباهت للألم والمعاناة وتلبّس قمصان الأبطال؟ وأخيرًا فالمعاني كلها عندهم مناسبات تصلح للنظم والقريض. كل المعاني قشّ. أما نحن فلم نستلم من أحد تركة، ولا نعرف إمارة، وثروتنا مكنوزة في الغد، لذلك فبينما ينظر الخلفاء للخلف في انطفاء، نحن نسرع الخطى للأمام بلهفة ناريّة للمغامرة والاكتشاف، ولا نعرف إلا مناسبة واحدة: العالم، فالوطن عندنا شجرة تنمو، والحبّ بحر يأتي، والسماء شراع يغري بالارتياد، ونسمي هذا كله الوردة".
هذه النبرة العالية، وهذا التحدّي الواضح للسّياق الشّعريّ شبه المعترف به رسميًّا، هو ما سيتوسع فيه الرّفاق بعد ذلك ليطول أسماء أخرى من نوعيّة أحمد سويلم وفتحي سعيد وأبو سنّة وبدر توفيق، من الجيل التالي لروّاد شعر التفعيلة، كما سيمتد مرة أخرى ليلتهم صلاح عبد الصّبور وأحمد عبد المعطي حجازي وحتى أمل دنقل، "آخر الشّعراء الجاهليّين"- بتعبير أحدهم. لكن هذه الجَرأة وقتها كانت بحاجة إلى تبرير على الأقل: "الرائد وخلفاؤه لم يقدّموا للآن قصيدة واحدة فيها جرأة اقتحام اللّغة أو موقف من البناء التشكيليّ، أو بحث عن سر الشّعر، عن جذوته، وذلك لأنهم تعلّموا "صنعة" الانقضاض عليه وهو بارد، رماد. تخيفهم سخونة الشّعر، ويقيّدهم مفهوم "الخريدة". أما نحن- والعالم بنا وفينا ديناميّ لا يثبت- فقد أعطينا الشّعر ذاتنا كلّها، للشّعر السّيّار، الطفل النَزِق، فانظروا إلى أين يجري بنا لعلّكم تدركون".
"الشّباب" 8 إبريل 75
بإمكاننا أن نتصوّر وقع هذه السّطور على مجتمع "الشّباب" الشّعريّ في منتصف السّبعينات، والذين تجاوز معظمهم العشرين عامًا بالكاد. إن "عليّا"، رفيقهم، يبشّر ب"عهد جديد من عناق اللّفظة وانفجار بحيرات الموسيقى ورياحات النّزف: نزف الحياة والكينونة والوجود"، ويلوّح في الأفق ب"بارقة أولى من كهرباء رائعة ستأتي كالعبقريّ الجميل"، ويهتف: "افتحوا الشرفات وأطلّوا، إنها تسري في كل جسد الإبداعيّة المصريّة، وتفجّر من شتّى أغصانها ماء الولادات الجديدة".
كان هاجس عليّ قنديل في هذه اللّحظة هو الصّدام مع تكنيك الكتابة السائدة، يوضح جمال القصّاص: "قد تقول إن مواجهة السّلطة شكل من أشكال الصّدام. لكن الصّدام الأساس في ذلك الوقت كان مع النّص الشّعريّ في المقام الأوّل. هذا هو السّلطة التي كان يجب أن نصطدم معها أولاً، ثم تأتي كافة السّلطات الأخرى في المجتمع. لأننا لو لم ننجح في المعركة مع هذه السّلطة، فسوف نفشل في مواجهة باقي السّلطات. أظن أن عليًّا كان واعيًا بذلك بفطرته، لكنه رسّخ هذه الفطرة بقراءات نهمة ومتنوعة في الشعر والنقد والفلسلفة والتّراث".
كان الشّاعر الشّاب، حسن طلب، ابن طهطا، عائدًا للتوّ من الحرب. ستّ سنوات فوق الرّمال البعيدة، في معمعان الاشتباكات، ضمن أفراد الكتيبة 820 مدفعيّة ميدان، كانت كفيلة بأن تنسيه الحياة المدنيّة برمّتها. هو الآن يريد أن يخوض تجربة الحياة من جديد، في الوقت الذي لم يكن راضيًا عن قصائده التي كتبها خلال الجنديّة. بدأ "حسن" تجربته الشّعريّة الأولى الطويلة "أزل النّار في أبد النّور"، ونشر بعض قصائدها في مجلّة "الكاتب"، ومنها التقط عليّ قنديل قصيدة "ربّة البوح والصّمت" ليكتب لها قراءة نقديّة أدهشت "حسن" لدى سماعها في ندوة جمعتهما بصحبة الشّاعر الفلسطينيّ الراحل، عبد الرّؤوف يوسف.
يحتفظ "حسن" بصورة "أبيض وأسود" من هذه الندوة، وفيها يظهر "حسن" مبتسمًا لرفاق الشّعر والحياة الجديدة، بينما سقط "عليّ" في الشّرود، وهو ينظر لعدسة الكاميرا، لعلها نظرته الأخيرة "الموثّقة" للعالم الذي سيهرب بعد أربعة أشهر بالتمام.
حسن طلب وعليّ قنديل "مارس 1975"
سيهدي "حسن" ديوانه الجميل "أزل النّار.."- دار النّديم.. 1988- إلى "أوّل قرّاء هذه القصائد، وأوّل ناقديها: إلى الشّاعر الرّاحل علىّ قنديل في ذكراه المتجدّدة". لكنه لم يعد يتذكّر الآن مكان الصورة بالتّحديد، كما لا يذكر أيضًا من قراءة "عليّ" النقديّة سوى أنها فاجأته. أما ما ذكره "عليّ" في ذلك المساء البعيد، فهو الآتي:
تسود في الشّعر المصريّ الآن- ضمن ما يسود- قصائد عن الحب، لا يغالي المرء إذ يلحقها بقصائد المناسبات التي تقال حسب قياسات مسبقة، فتلفح القارئ، في أحسن الأحوال، بنسمة باردة لا توقد نارًا، ولا يتلاطم فيها موج، ولا أرى لذلك سببًا إلا افتعال تجربة لم تمتزج بلحم الشّاعر، أو استجلابها من ذكريات بعيدة، فتأتي، تحت القسر وغبار الطريق البعيد، هامدة، لا تغيّر في الشّاعر ذاته قليلا، فما بالك بخوض التجربة مع القراء.
وفي مقابل هذه الظاهرة، نتحاور الآن مع قصيدة حب لشاعر شاب، أثارت فينا ولعًا بالاحتراق وحرقة للمغامرة، فلم تمر في النهاية كنسمة باردة، وإنما انطلقت بنا من ساحتها إلى رحلة عبر المجاهيل تطول، وطالما كانت القصيدة جسدًا حيًّا، فإنها تفرض علينا منهجها: تشريحًا وكيمياءً، كوسيلتين للمحاورة يستحيل عزل إحداهما عن الأخرى.
خلص "عليّ" إلى إن التجربة في القصيدة هي المعاناة ذاتها، وبذا تنزرع توًّا في تراب الشّعر الحديث، كما رأى في لغتها ممارسة راقية لتفجير مناجم اللّفظ، وجهد في تكوين أبجديّة خاصة يمتزج فيها البيان الصوفيّ الإسلاميّ بالقياسات المنطقيّة بالمصطلح الفلسفيّ الذي يغتسل في نهر الشّعر فيكتسب بذلك نبضًا حياتيًّا جماليًّا، ويكسب الشّعر عمقًا صافيًا للتأمل وفسحة للعقل. وحيّا "عليّ" التوهّج الكبير في الكثير من الصور التي تشير إلى حساسية شعريّة راقية. وفي ختام القراءة: "إن كان لي في النهاية كلمة، فهي أن القصيدة ما زالت فيها مناطق كثيرة تثير الحوار، وأنها عمل مثمر أفتخر به، ومصباح جديد يضيء ركنًا في ظلمة الإبداع المصريّ الذي تناهى على أيدي الشّعراء الرسميّين إلى جلافة في الإحساس وزيف في العاطفة".
إن الثورة على السّياق الرسميّ للشعر، كما هو واضح، هي الشاغل الأساس ل"عليّ قنديل" في هذه المرحلة. إنه يؤدي حتى الآن جميع الأدوار ببراعة: الثّائر والمبشّر والظّهر النقديّ والنبيّ الجديد، ولا يتوقف أبدًا عن الكتابة: نقدًا وشعرًا وتأملات في الثّقافة:
"يمر الإبداع المصريّ الآن بلحظة أزمة من شأنها أن يرتبك محلّلوها ويتخبطون في شتى الأسباب والعلل. لعل السرّ في فقدان الشّاعر فعاليته الحضاريّة، وإخفاقه في دفع دائرة التفاعل بينه وبين مجمل الثّقافة العربيّة الناهضة من ناحية. ومن ناحية أخرى بين هذين وبين جوهر الثّقافة الإنسانيّة، وصولاً لتحقق استمراريّة التجدّد والنموّ في قلب أو في موازاة استمراريّة صعود الحدث التاريخيّ الكونيّ.
لقد أصبح الموضوع قبل القصيدة، الحدث الخارجيّ قبل الحدث الشّعريّ، القضيّة قبل التجربة، ويمكن أن نفسّر هذا الكلام بسببين:
1- الكتابة من داخل مفاهيم نظريّة عامة اقتضتها ظروف سياسيّة مختلفة، وأراد لها السّاسة أن تكون هي الشهادة الوحيدة لميلاد أيّ شاعر، وبها أرادوا أن يرتفع شعراء إلى أقصى المجد والضّوء، وأن ينخفض بل ينعزل آخرون في درك الانحراف والعماء.
2- الكتابة من داخل أطر نقديّة اصطلح عليها جيل الرّواد من الشّعراء والنقّاد، فوقعوا في دائرة فاسدة من التّكرار والإملال كان من العسير معها بروز ملمح جديد نزق أو رؤيا للعالم خضراء لم تطغ عليها رائحة الأقدمين.
ومن نفس المنطلقين صدرت أحكام النّقد التعسفيّ، الرّاسف هو أيضًا في قيود التّكرار والإملال، فلا حياة للنّقد دون إبداع حيّ متنام. وينعكس هذا كله على مزاج فنّيّ عام لا تدبّ فيه إلا حركة ميكروسكوبيّة لا ترقى إلى مستوى عام (ظاهريّ)، وإن بحثت عنه تجده متخلّفًا عند محطة عبد الصّبور وحجازي، وإذا كنت لا أعني بالمزاج الفنيّ إلا اتجاهات ومقوّمات عملية استقبال الفن والتفاعل معه والمضيّ به في شوط آخر من الخلق خارج عن يد مبدعه، فإنني أرى أن شيئًا فنيًّا ذا قيمة فعّالة وجهد حركيّ عظيم لا يمكن له التأثير في مثل هذه الجِبِلّة الثقافيّة، بل إنه من العسير أن يقفز إلى الوجود أصلاً".
والمطلوب بالضّبط تحطيم هذه الجِبِلّة الثّقافيّة التي فرضتها السّياسة، وأملاها الظّرف التاريخيّ، وهو طارئ بطبيعة الحال، من أجل إتاحة بيئة حرّة للتلقي وإعادة الخلق. ذلك هو التحدّي الأول على طريق الثورة، وهي معركة شرسة يجب أن نخوضها مع الحاضر بالأساس، لا الموروث. بمعنى آخر، يجب نزع سلطة الموروث عن الحاضر، لا طرحه بالكليّة، فهو المستودع الحقيقيّ للّغة والخبرة الإنسانيّة ونضالات البشر، لقد وقعنا في قلب إشكاليّات الحداثة. ويبدو أن عليّ قنديل يحاول أن يجد مخرجًا من المأزق:
"لقد بات من الواضح أن القاهرة كعاصمة للإبداع المصريّ قد أفلست، وصار من شأن التمادي في تتبّعها خلق جيل من الشّعراء، إما مسلوب الإرادة، وبالتالي لا قيمة لإبداعه بل لا وجود له، وإما منعزل حبيس وحدته، وهنا قد يوجد الإبداع ولكنه إبداع أعمى عن اتجاهه، فاقد لثقل الخبرة، فهو إذن غير ذي بال، وإذا اتجهنا في حل تلك المسألة إلى شعراء الأقاليم، وهم كثرة، واجهنا ما يلي:
- مشكلة عدم توافر الكتب والعجز عن تتبع الحركة الأدبيّة المصريّة والعربيّة، وهي مشكلة تنطوي على سخف كبير لا أرى مبرّرًا لمناقشته هنا.
- تفتقد الأقاليم ذلك المحلول الكيميائيّ الضروريّ لنمو الشّاعر، وأقصد به المشروعات والوجودات الفنيّة، ابتداء من الأوبرا وانتهاء بأفيشات السّينما في الشوارع، فإن لم يتخذ الشّاعر تدابيره الخاصّة- تفاعلاً مع كل ذلك- يأتي شعره بقدر ملحوظ من الأنيميا التي تحول بينه وبين شمول التجربة الشّعريّة المعاصرة التي تضم تحت عباءتها السّينما والمسرح والموسيقى والقصّ والقيم التشكيليّة.
- الشّاعر في الأقاليم- وإن كان يعد بعطاء كثير- فإنه حسن النيّة، حيث لا ينبغي حسنها، فهو أكثر الناس إلحاحًا على أماكن النّشر القاهريّة، على اختلافها شكلاً واتجاهًا، وهو أحرص الناس، في حياء، على احترام شروط المزاج القاهريّ، وهو أخيرًا انهزام آخر أمام الدّائرة الفاسدة من الإبداع والنقد".
ما الحلّ إذن؟ هناك حركة شعريّة موّارة تتفاعل وتتلاقح بعيدًا عن المركز، لكنّها تفتقد الإمكانات التي توفّرها السّلطة، وهي تتمتع بالاستقلال جرّاء ذلك، لكن وجودها نفسه مهدّد، ومحكوم بشروط من خارجها، وهي معرّضة للموت في الهامش، لا نتيجة القهر، بل سوء الفهم وضيق الأفق وعدم الرغبة في الاستيعاب، من هنا تأتي أهمية التبشير بها وإضاءتها، من أجل تحرير مساحة لها في مواجهة السّلطة بلا انهزام أو خضوع. ولعل عفيفي مطر هو النموذج الأجدر بأن يطرح في هذا السّياق. هنا يمدنا الأرشيف بالمواد التي نبحث عنها:
لدى صدور ديوانه "كتاب الأرض والدّم"، يكتب عليّ قنديل عن "مطر"، مدرّس الفلسفة بمدرسة المعلّمين الثانويّة بكفر الشّيخ، أحد أهم الأصوات في الشّعريّة العربيّة، مقالاً في مجلّة "الشّباب": "الفكرة التي تربط بين تاريخ ووجدان الفنان وقيمة أعماله واتجاهاتها فكرة تشتد صحّتها إذا ما اقترنت بالشّاعر عفيفي مطر، بل إنها في نظري تعد المفتاح الأوّل لفهمه والمقياس العادل الذي يوجّه أحكامنا عليه إلى المكانة التي هو جدير بها. ولعل هذا هو العامل الذي أبعد مثقّفي القاهرة عن الحصول على تفسير حقيقيّ ومناسب لهذا الشّاعر، فهناك مسافة ما زالت قائمة بين إدراكهم الخارجيّ لشعره وبين الأصول الأساسيّة لوجدانه التي هي في الحقيقة بؤرة هذا الشّعر".
كان الرّفاق يسمّون "عليًّا" الحواريّ الأثير ل"مطر"، وهو الشّاعر الوحيد الذي اصطفوه من جيل السّتينات وصار أحد علاماتهم البارزة. في هذه الأثناء، كان "مطر" تولّى تقديمه في إذاعة البرنامج الثاني، بكلمة قصيرة كتبها خصيصًا للشّاعر الجديد، الذي لم يقدّم سواه طيلة حياته المديدة في رحاب الشّعر والمنافي. ها هو "عليّ" يقدم لمثقّفي العاصمة تصوّره الخاص لأستاذه، الذي يختلف معهم إلى حدّ العداء: "يبدأ تشكيل الوجدان المطويّ في المكان اللّائق بكل شاعر كبير: القرية، حيث يتعلّم الأسرار الكبيرة، الظاهرة الدينيّة، الأخلاق التي شكّلتها نار فرعونيّة ثم نار عربيّة، الأمومة بشموخها وقدرتها على إخراج الحيّ وبكاء الميّت، يتعلّم المعادلات الكبيرة، القهر– الضّجر، الحرمان– الاشتهاء، العمل– الفقر، ويدخل كتاب الشّعر المفتوح بصرعى السّماء والأرض، والمخزون في ذاكرة الخرافة الشعبيّة والحكاية والأسطورة، بل في النّخيل والنوّار والفصول الأربعة، يتعلّم من جدل (الفلاحة) وتناسخ الأجيال ركائزه الفلسفيّة الأثيرة: العناصر الأربعة، الزّمن، الدّيالكتيك، والمسؤوليّة".
"كتاب الأرض والدّم": "ليست المسألة أن نرقّع الثّوب.. المسألة أن نستبدلَ الجسد"
يذكر حلمي سالم أن "عليًّا" كان يستعير دومًا هذه الجملة من مقدمة "مطر" ل"كتاب الأرض والدّم": "ليست المسألة أن نرقّع الثّوب، المسألة أن نستبدلَ الجسد". ولعلها الجملة التي تترجم تمامًا مفهومه الخاص لثورة الكتابة الجديدة، ومفهوم جماعته الشّعريّة لاحقًا. هنا نلمح إرهاصات هذا المفهوم: "يختصّ عفيفي مطر بحساسيّة بالغة النفاذ في عمق "المصريّة" مكانًا وتاريخًا، ولكنها حساسيّة توجهها عاطفيّ (تنفتح) في العالم، وله: (ودّ قلبي لو تحوّلت لماء، وعروقي اشتعلت)، على عكس غالبيّة الشّعراء حيث العاطفيّة الانفلاتيّة التي تحبس في قفص الصدر ما تقدر عليه، وتلوّنه بالمرارة الحامضة والأسى الأنانيّ الذي غالبًا ما يكون مريضًا".
ويستند هذا المفهوم الجديد بالأساس إلى معمار صوفيّ "ينزع إلى السموّ المستمر بالعالم، نزوعًا إيجابيًّا فاعلاً يمكن أن نوجزه في كلمة قديمة: العطاء. ويتحقق هذا العطاء في معنى الشّعر بالاكتشاف المستمر والتطوير مستخدمًا الاستقصاء الظاهراتيّ أحيانًا، والبصيرة الشفّافة في كلّ الأحيان. ويتحقّق في تشكيل الشّعر بما استطاع تحقيقه من مكسب للقصيدة المصريّة، وهو موضوع يطول، إن مطر لا يشكو أبدًا من أنه لا يأخذ، ولكنه يشكو من أنّ أحدًا لا يقدم على الأخذ منه".
إن علاقة عفيفي مطر ب"عليّ قنديل" قديمة للغاية: عندما كان الأخير تلميذًا في الإعداديّة ذهب بصحبة والده "يوسف" إلى منزل "عفيفي" ذات مساء بعيد. كانت يد الطفل معلّقة بأبيه، وفي الأخرى دفتر صغير، هو ديوانه الذي جاء يستطلع رأي الشّاعر فيما إذا كان صالحًا للنشر، أو فيما إذا كان الشّاعر الصغير نفسه صالحًا للاستمرار من عدمه. ذلك ما يؤكّده "إبراهيم" شقيق "عليّ"، الذي يحتفظ حتى الآن بهذا الدفتر الصغير. بإمكاننا أن نتخيّل بقيّة المشهد: أخذ عفيفي مطر وقتًا مناسبًا يتفحّص شعر الغلام، وكان يحتاج إلى أقلّ بكثير من هذا الوقت لكي يتأكد من أنها فعلاً كتابة طفل صغير يحبو نحو دَرَج الشّعر، ولا تزال أمامه أشواط من البلوغ والتثقيف والصّبر والمكابدة. لكنه، هو المُعلّم الذي أتى من "رملة الأنجب" النائية ليرعى أبناء الفقراء، وجدانيًّا ودراسيًّا ومعرفيًّا، اعتاد وجهه أن يتهلّل لمرأى بشائر النبوغ لدى أيّهم. ذلك ما حدث بالتّأكيد مع الصّغير "عليّ"، الذي نصحه "عفيفي" بطرح فكرة النّشر حتى إشعار آخر، والبدء من جديد.
سيسافر "عليّ" بعد ذلك إلى مدرسة المتفوّقين الثانويّة بعين شمس، وهي مدرسة داخليّة كانت تقبل الخمسة الأوائل فقط في الإعداديّة من كلّ محافظة. بإطلالة قصيرة على موقعها الإلكترونيّ، سنعرف كم كان "عليّ" يحظى برعاية استثنائيّة خلال هذه السنوات الثلاث:
تهدف المدرسة، كما تقول عن نفسها، لإعداد جيل من المتفوّقين يتولى القيادة على أسس صحيحة من العلم والتكنولوجيا، ومعاونتهم على مواصلة التقدّم وتدريبهم على التفكير والبحث العلميّ والابتكار، وربط الشّباب المتفوّق بالفكر والعمل الوطني، والكشف عن ميول واستعدادات المتفوّقين وتنميتها.
وتوفّر المدرسة، التي تدرج الآن على موقعها صورة لعليّ قنديل مصحوبة بسيرة شخصيّة موجزة، كافة الظروف التعليميّة المبنية على تخطيط علمي سليم، وتخطط مناهج إضافيّة تناسب تفوّقهم وتنمية مواهبهم، كما تُعنى بألوان النشاط التي تسمح بإشباع ميول الطلاب، وتزوّد المكتبة بالكتب والمراجع والأجهزة الحديثة لإتاحة فرصة الاطلاع على شتى فروع المعرفة، كما تسمح بظهور الجماعات والقيادات وتتعهّدها بالرّعاية، وتوفّر المعامل والورش والأجهزة والوسائل التعليميّة الحديثة التي تعين على الفهم والابتكار، كما توفّر الرّعاية الصحيّة والاجتماعيّة والنفسيّة، والحوافز المعنويّة والماديّة والأدبيّة.
يبدأ اليوم الدراسيّ في السادسة والنصف صباحاً، وينتهي في التاسعة، موعد المذاكرة، التي يشرف عليها المعلمون ومشرفو القسم الداخليّ وتشمل جميع المواد الدراسيّة يومياً للرّد على أسئلة الطلبة. وفي المدرسة ناد اجتماعىّ معد لاستقبال أولياء الأمور صباحاً ومساءً، وتعقد فيه اجتماعات الطلاب بالأساتذة، وبه تليفزيون للبرامج التعليميّة والعامة، ومسرح للتمثيليّات وحفلات السمر وبعض الألعاب الخفيفة لشغل وقت الفراغ.
في هذه المدرسة، كان "عليّ" يحصل على 4 جنيهات شهريًّا كمكافاة تفوّق، وهو مبلغ يساوي تقريبًا ربع مرتب والده في ذلك الوقت، لكن عليّا انتقل الآن إلى منطقة أبعد، لقد صارت الغربة من وقتها هي الأساس، والأسرة هي الاستثناء في حياته، والموت هو الحقيقة الوحيدة. لذا تعامل معها من أوّل يوم- الغربة- كوطن بديل ودائم. وعلى عكس رفاقه الذين انتُزعوا فجأة من قراهم البعيدة الساذجة، كان "عليّ" تلميذًا حيويًّا بالغ النّشاط محبًّا لزملائه، محبوبًا من الجميع. وكان رفيقه في الصف "إبراهيم فهمي" يعزف على الجيتار بينما يؤدي هو الأشعار في إذاعة المدرسة. صنع "عليّ" حالة مبهجة ستبقى في ذاكرة الذين رافقوه، بحسب الدكتور مصطفى شمعة، حاليًا أستاذ المسالك البوليّة بطب الإسماعيليّة، لكن مذكّرات "عليّ" الصّغير في هذه الفترة تؤكد العكس:
في "رسالة إلى الله" بعنوان "الفراغ" يكتب، 19 يناير 1970: شهر يناير من عام جديد، أول السّبعينات، وثلاثة شهور باقيات لأكمل سبعة عشر سنة قِدمًا على الأرض، والآن. رغبة ملحّة تدفعني للكتابة، أيّ كتابة، فأشعر كأني إن لم أفعل أترك جريحًا تتمزّق خلاياه. يستغيث، يستغيث بي لأكتب. وها أنا أكتب.
"علي" طالب الثانوي: أشعر بأنني ميّت يمشي على القبور وعيناي معلّقتان بالفراغ
مرحلة جديدة يمر بها تطوّري النفسيّ اللّامنتظم، وغير المرتب، والقادر على إرهاق أيّ عقل و"لبخة" أيّ مخ، مرحلة جديدة وغريبة، أشعر فيها من داخلي، من أعماق أعماقي، بأنني خاو، بأن بئرًا محفورًا في أعماق نفسي العميقة يمكث خاليًا، فارغًا، لا ماء فيه، ولا حتى هواء، أشعر حتى بفقدان الآلام التي كنت أتلذّذ بها منذ عامين أو ثلاثة، وأشعر بهروب الأفكار من رأسي. وينتاب عليّ قنديل الأسف.. الأسف لهروب الأفكار، وهي الصّديق الوحيد له، الذي لا يخونه ولا يتركه، أشعر بأنني ميّت يمشي على القبور، يشاهد الأحداث فيرى فيها أشباحًا لا تثير فيه إلا الغضب أو الرجوع إلى القبر. وفي القبر أقف شاردًا متعلقة عيناي بلا شيء، في الفراغ، ويسرح عقلي في لا شيء، في الفراغ، قدرتي على التخيّل تعاودني قليلاً قليلاً فأتخيّلني ميّتًا. وأحيانًا أجدني إنسانًا لا تربطه علاقة بأحد، سقط من مكان مجهول ليشاهد تلك المسرحيّة على الأرض، وإذا حاولت التفاعل مع المسرحيّة جذبني الفراغ من ذراعي صارخًا: "أنتَ لي". لا أضحك، لا أبكي، ولا أغني، هذه مشكلتي، وإلى من أشكو؟ شكواي مرفوعة إلى الذي أراد هذا.. إلى الله.. وهذه رسالة إلى الله.
1966
كان "عليّ" صبيًّا مرحًا وهادئًا وعمليًا، بابتسامة خفيفة دائمة على شفاهه، كما كان مهزارًا للغاية في أوقات الفراغ، لا يشبع من تقليد أساتذته وإضحاك زملائه، لكن بداخله كان بركانٌ يمور يكاد يحرقه ويقضي عليه، لقد توصّل قبل عشرة شهور من رسالته إلى الله- 20 إبريل 68- إلى أن السّلام مستحيل على هذه الأرض، ولعلّ هذا يكون الأفضل للعالم:
إننا دائمًا ندعو إلى السّلام والتعايش السّلميّ، وأنا بذاتي أبغض الحرب كلّ البغض، وأناصر السّلم كلّ المناصرة، ولكنّني إذا خلوت إلى عقلي وفكري وفكّرت في مصير العالم بعد أن ساد السّلام وجدته هكذا:
ليس ثمّة حركات عنيفة تهز العالم وتوقظه لأنه آنذاك سيكون في شبه حلم أخضر معسول، يسير على نهج واحد تحيط به رتابة مؤلمة. ثم لن يكون ثمّة دول كبرى أو صغرى، فإذا ما ساد السلام فأيّ دولة صغرى ستصير كبرى، والسّلام مرتبط بالخير، أي أن الخير سيسود العالم، وسيتقشع الشّر، فهل يكون البشر ملائكة أم يرتقون إلى مرتبة الإنسان الملاك؟ هذه هي الحياة بعد السّلم السّائد في تفكيري، وما تكاد إلا وتتمزق حبالها ويثور البشر على هذه الرّتابة المملّة، لأن الإنسان بطبيعته يملّ بسرعة ويريد التجديد، ثم تأتي الحرب مرة أخرى ويأتي في ركابها الشّر، أو يأتي الشّر وتأتي في ركابه الحرب، فالإنسان تحتّم عليه غريزته عدم الثّبوت على نهج بذاته، بل تتطلّب التغيير، حتى لو كان هذا التغيير إلى الشّر.
هذا العقل الجدلي الصغير، كيف ينقذ نفسه من هذه الرّتابة المؤلمة؟ وكيف ينتصر على هذا الفراغ القاتل بلا أفكار؟
بتصفّح الدفاتر المدرسيّة للصبيّ سنعرف إلى أيّ مدى كانت قراءاته منظّمة ودقيقة وشاملة، ربما عملاً بوصيّة الشّاعر عفيفي مطر، أو بدافع من نهمه القديم للمعرفة. في هذه الدفاتر كان "عليّ" يدوّن منتخباته من أشعار المتنبي وأبي العتاهية وشوقي والبارودي وأبي محمد القاسم الحريري والطغرائي والمعرّي وطرفة وعنترة وجبران وميخائيل نعيمة ونزار قباني ونجيب سرور. بين الأوراق ترجمة وضعها "عليّ" لقصيدتين من الشّعر الإنجليزي، كلاهما موقّع في أغسطس 70: الأولى ل"وليام بلانك" وعنوانها "النّمر". تقول القصيدة:
في ليل الغابات السّاكن/ تجري كالنّار البرّاقة/ يا لها من يدٍ أبديةٍ أو عينٍ سرمديّةٍ/ تلك التي وهبَتْك هذا التناسقَ المروّع/ في أيّ الأغوار أو الأعماق أو السماوات/ أُضرمت تلك النار في عينيك الرقيقتين؟/ كجناحٍ في طائر الرغبةِ تمضي/ ودونما خوفٍ تنقضّ على النيران/ أيّ منكبٍ صُلبٍ، وأية مهارةٍ/ تستطيع أن تدفع عضلات قلبك؟/ وأيّ يدٍ باطشةٍ وقدمٍ طاغيةٍ/ عندما تعلو دقات قلبك الجَسور؟/ بأيّ مطرقةٍ وأي سلسلةٍ وأيّ سندان/ وفي أيّ أتونٍ صُهر عقلك الجبّار؟/ ويالروعة تلك القبضة/ التي تمسك بالأهوال/ عندما ترمي النجوم سهامها/ وعندما تفيض بدمعها المياه/ هل هذا الذي جعلك تظهر مبتسمًا/ أم هو ذاك الحمل السّاذج؟/ في ليل الغابات السّاكن/ تجري كالنّار البرّاقة/ يا لها من يدٍ أبديّةٍ/ وهبت جسمك هذي الطّاقة.
والقصيدة واحدة من ترجماته النادرة، حيث لن نراه مترجمًا فيما بعد، فهل استهوته القصيدة لأنها تنقل فكرته الأولى عن ضرورة الشّر إلى منطقة أبعد، منطقة الجمال والتناسق والطّاقة والوَهَج والرّقة والجسارة، التي تشكّل عبقريّة هذا الشر، بعيدًا عن حاجة العالم إليه؟ إنه يقول في مذكّراته إنها "أفكار جاد بها العقل في أثناء انفعاله وساندتها العاطفة، أو جادت بها العاطفة في أثناء انفعالها وساندها العقل". لا فوارق إذن بين العاطفة والعقل لدى عليّ قنديل، طالب "المتفوّقين". الانفعال هو الأهمّ في هذا الفراغ الموحش في مدرسة داخليّة لا يغادرها ليلاً أو نهارًا. كلاهما- العقل والعاطفة- مكرّس لهدف واحد: هذه النّار البرّاقة، هذا القلب الجسور والتناسق المروّع، طائر الرغبة الذي ينقضّ على النيران بلا خوف، ذي العقل الجبّار المبتسم، القبضة التي تمسك بالأهوال. إن هذا النّمر، الذي يجوس خلال القصيدة ويأكل الحملان السّاذجة، هو الشّعر.
فبراير 1968
القصيدة الأخرى، "المرآة" ل"دونالد ماكيملان"، وترجمها عليّ قنديل عموديًّا على إيقاع الرَجَز، فمن الذي علّمه الموسيقا؟ يجيب "الشّهاوي": "لا أعرف، هذا السّؤال يصادفني لأوّل مرة، أنا لم أعلّمه عَروضًا، ولا عفيفي مطر أيضًا". يتذكّر "الشّهاوي" أنه عرف "عليًّا" الشّاعر من قبل أن يراه. "عمّ يوسف"، والده، الذي قرّر أن يتعهّد هذه الموهبة الصغيرة النامية في بيته، ظل يأخذ أشعاره الجديدة إلى عفيفي مطر، هذه المرّة في مجلّة "سنابل" التي كانت تصدر من محافظة كفر الشّيخ، وفيها كتب "عليّ" أوّل نصوصه المنشورة في مجلّة لا يحرّرها بخط يده. لقد كان طوال حياته صانع مجلّات يدويّة دؤوبًا. اختار "عفيفي" أحد نصوص "عليّ" لنشرها في باب "سنابل جديدة"- عدد نوفمبر 70- والغريب أن الرّقابة اعترضت على هذا النصّ بالذّات، فاضطرت المجلّة لإرسال نصّ آخر ل"عليّ" الصغير إلى المطبعة بدلاً من الممنوع.
أول نصوص "عليّ" المنشورة
صنع عفيفي مطر من "سنابل"- عددها الأول صدر في ديسمبر 1969 واستمرت 27 شهرًا- منبرًا ثقافيًّا لا يستهان به، بعد أن استتبت السّيادة في العاصمة "القاهرة" لأطر الثّقافة الرسميّة، وفرغت المجلّات الحكوميّة من كل وجود طليعيّ لتستأثر الدّولة وحدها بالقرارين الثقافيّ والسياسيّ معًا. استوحى "مطر" اسم مجلّته الجديدة "سنابل" من مصر الخضراء، لا مصر المؤسّسات الرسميّة، معلنًا منذ العدد الأول أنها "مجلّة لأدباء الأقاليم"، يقول د. صبري حافظ: "كان يصدرها من كفر الشّيخ ليعلن من خلالها لأوّل مرّة في تاريخنا الحديث، الثّورة على مركزيّة الثّقافة المصريّة، وعلى واحدية رؤيتها، وعلى سلطة القاهرة الآسرة فيها، وربما كانت هذه المجلّة، التي استطاعت أن تفرض نفسها على جمهور القاهرة الأدبيّ نفسه، هي البذرة الأولى لظاهرة الثّقافة البديلة، فقد كان رئيس تحريرها هو الشّاعر الذي بدأ طرح نموذج التميّز بالمغايرة".. مجلّة "ألف"- عدد 11، 1991.
كانت كفر الشّيخ إذن هي عاصمة الثّقافة البديلة في ذلك الزّمن، كما ألمح الدّكتور "حافظ" بذكاء، الأمر الذي ربما يحتاج إلى إيضاح أكثر، يقدّمه ماجد يوسف: "كانت المجلّة الوحيدة، بحكم موقعها الجغرافيّ، التي اهتمت بالنبض الأدبيّ الجديد في مصر، وصنعت زخمًا كبيرًا قاده المبدعون المصريّون الشّباب في القصّ والشّعر والنّقد والمسرح، لدرجة أنها فتحت أعين المجلّات الرسميّة على هذه الظاهرة الخارجة عن السّياق: أصدرت "الهلال" عددًا عن القصّة المصريّة الجديدة، وقدّم له رجاء النّقاش، رئيس التحرير، كما قدم يحيى حقّي عددين من مجلّة "المجلّة"، واختار قصصهما بنفسه، وهكذا كانت "سنابل" بمثابة مركز إشعاع ثقافيّ كبير ومستقلّ في الوقت نفسه".
هذه المغايرة، وهذا الاستقلال، اللّذان لم يكن مسموحًا بهما في ذلك الحين، حتى على صعيد الثّقافة، تسبّبا في إغلاق المجلّة نهائيًّا قبل عام من الحرب، إن افتتاحيّة العدد الأول للمجلّة، الموقّعة باسم مجلس التحرير، والتي تفوح بلغة وأفكار عفيفي مطر، تؤشّر على مستقبل الإصدار ومصيره النهائيّ: "لقد حمّلنا القهر السياسيّ على طول المدى مشكلات ضخمة، وفرضت علينا غزوات المحو الاستعماريّ وحملات الإرهاب الفكريّ والثقافيّ مشكلات أعقد، فكان ميراث جيلنا فوارق هائلة بين حضارة المدينة وجهالة القرية، مما أصاب ثقافتنا بالفقر والهزال، وجعلها ثقافة مسطّحة ضحلة لا تحمل في عمقها غنى التنوع وضخامة الشّمول، فاكتفى المثقّفون بما يتناقلونه من رغوة المصطلحات والقضايا والهموم المنفصلة عن مشكلات الإنسان المصريّ في سخونتها وتشابكها، واكتفوا- إذا أرادوا دراسة الواقع- بأن يتركوا المواجع تفكّر لهم، وأن يتركوا للنظريّات المثلجة في عتمة الكتب مهمة الدفاع الديماجوجيّ عن نضالهم ومواقفهم الهزيلة، وكأن مشكلة الحياة والتقدّم تحلّها السّطور الباهتة في طلاسم النصوص".
ثم تنتقل الافتتاحيّة الطموحة مسافة أبعد تصل إلى حدّ "السيطرة على البناء الاجتماعيّ وتوجيهه إلى مستقبل يكون فيه الفكر أقرب إلى الحقيقة والحق، والعمل أقرب إلى العدل والإنسانيّة، والبشر أقرب إلى الحريّة والسعادة، أما قسر الواقع وتسطيحه وتزيينه حتى ينضغط في القوالب الجاهزة ويندرج في قوائم النظريّات المطلقة، فهو أمر يدين المثقّفين بكسل العقل والانتهازيّة والطفولة الثوريّة".
"سنابل": لقد حمّلنا القهر السياسيّ والإرهاب الفكريّ على طول المدى مشكلات ضخمة
ولا يبقى أمام الافتتاحيّة سوى خطوة واحدة لكي تصل إلى هدفها الواضح. ضرب المركز الثقافيّ والشلّلية شبه الرسميّة على مقاهي العاصمة: "كيف يمكن أن تدبّ هذه الحركة بعيدًا عن الثّقافة والحوار وصراع الأفكار؟ وكيف يمكن أن يوجد الحوار وصراع الأفكار في غياب أجهزة الإعلام والثّقافة التي تحمل فكر وثقافة وتجارب كل قطاع وكل ركن من أركان الواقع الممتد على خريطة مصر، ما دامت كل وسائل الثّقافة قد تركزت وتكثفت إلى حد التخثّر والاختناق في مدينة واحدة هي القاهرة، وما دام المثقّفون والكتّاب لا يجدون مناصًا من الهجرة إلى أرصفة مقاهيها وثرثرة لياليها ومماحكات الجدل الأجوف بعيدًا عن حرارة الحوار الحقيقيّ بين الحياة وصناعها".
غلاف العدد الأول من "سنابل"
ورغم أن المجلّة "وقعت في براثن كتّاب القاهرة كثيرًا، وبدون ذكاء، وبدون مبرّرات، لأن هؤلاء- كتّاب القاهرة من الشبّان والكبار- الذين كتبوا في "سنابل"، كان أغلبهم- بدراسة ما كتبوه في المجلّة- دون المستوى الفكريّ والأدبيّ، ولا يتفوّقون كثيرًا عن هؤلاء الذين يصرخون في كفر الأشرم أو بيلا أو المطاعنة، بل إن بعضهم لم يقدّم سوى مقالات صحفيّة روتينيّة رديئة للغاية"، كما يرى فتحي سلامة في مراجعته لمسيرة العام الأول للمجلّة- يناير 71- رغم ذلك ستصبح المجلّة المغلقة، و"عفيفي" نفسه، من الإلهامات الكبرى لحركة الشّعر في "سبعينيّات السّادات"، قبل أن يغادر "مطر" هربًا إلى "عراق صدّام"، ليصعد من هناك منصّة الهجوم على زمن "كامب ديفيد"، ويحاول استعادة الزّمن العربيّ الأوّل، زمن اتحاد السّلاح والقصيدة معًا، لا "السّلاح والسّياسة".
لكن، ماذا بعد إغلاق "سنابل"؟
لقراءة الحلقة الثالثة اضغط هنا .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.