نحن نحتاج إلى تغيير ثورى فى الفكر الإدارى بواسطة عقليات إدارية جديدة تحل مشكلات الروتين حلاً جذرياً، وتبتكر إجراءات إدارية ميسّرة فى المصالح الحكومية. نحتاج إلى عقلية إدارية لا تحل فقط مشكلات المستثمرين، بل تجذبهم، مثلما فعلت كل البلدان التى غادرت الدائرة المقيتة للتخلف الاقتصادى. إن نظام «الحوكمة» جزء أصيل من حل مشكلات مثلث الرعب الإدارى: 1- البيروقراطية التقليدية. 2- الفساد. 3- الروتين والعقم الإدارى. لكن لا بد أن أؤكد للقارئ منذ البداية أن أى نظام مهما كان رائعاً، لا يكفى وحده للنجاح دون كفاءات بشرية، مثلما لا تكفى المياه لإنبات الزرع دون أرض صالحة للزراعة، أو مثلما يقول مثل هندى: «المرعى أخضر، ولكن العنز مريضة». ويمكننى أن أعطيك مثلاً يعيشه العالم جميعاً، وهو معضلة التناقض بين نظام الإسلام والمسلمين؛ فالنظام رائع بالقلم والمسطرة، لكن حال الأتباع كما ترى، لا يزالون يعيشون فى طور التوحش على حد تعبير ابن خلدون قديماً! وهكذا مجدداً «المرعى أخضر، ولكن العنز مريضة»! ومن الإسلام إلى نظم الإدارة فى العالم الثالث ستجد التناقض نفسه، لكن المعضلة أكبر، أما التناقض فهو بين النظام -إذا وُجد أصلاً- والبشر الذين يديرونه، فالمعضلة أن النظام غالباً غير موجود، لكنه فى حالة وجوده فى بعض المؤسسات، تجد أنه يأخذ النكهة «العربى»! يعنى يتم تفريغه من مضمونه! ولذا عندما نقول إن حل مشكلات الإدارة فى نظام الحوكمة، فإن هذا ليس معناه ضمان النجاح دون توافر كوادر بشرية مؤهلة. ولا يدعونى إلى قول هذا التجربة التاريخية فقط، ولكن أيضاً التجربة الشخصية، و«اسأل مجرب..»، فمؤخراً ذهبت إلى إحدى المؤسسات المرموقة التى تطبّق نظام الحوكمة، وطلبت إجراء معاملتين، فقال لى المدير التنفيذى: «يكفى معاملة واحدة رقم (أ)، ويمكنك أن تجرى المعاملة الثانية (ب) فى يوم آخر». وهذا معناه مشوار آخر ووقت مهدر وعبء إضافى، لا لأى سبب غير أن سيادة المدير التنفيذى كسلان هو وموظفوه! تلك كانت المشكلة الأولى: موظف كسلان يعمل فى مؤسسة تطبق نظرياً نظام الحوكمة، لكن النظام تم تفريغه من مضمونه بسبب موظف كسلان لا يوجد عليه رقيب. أما المشكلة الثانية: سألت سيادة المدير التنفيذى عن إجراء إدارى معين، فقال لى: «مستحيل». فقلت له: إن الإجراء الذى تقول عنه مستحيل هو ما يتم كل مرة بمبادرة منكم. فقال لى مرة أخرى: «مستحيل، وسوف أتصل بالمدير العام لكى يؤكد لك استحالة هذا الإجراء». فقلت له: مهما تقل لى، وحتى لو استشهدت بنيوتن نفسه، فإن التجارب السابقة تؤكد أن مؤسستكم تطبق هذا الإجراء. وهنا قررت ألا أضيف «وجعاً» جديداً إلى عقلى، وأنهيت المناقشة وتنازلت عن الإجراء الذى يراه ذلك المدير المغيّب مستحيلاً! كما تنازلت عن المعاملة الثانية (ب)، واكتفيت بالمعاملة الأولى (أ). وهنا سلمنى المدير إلى الموظف لتنفيذ المعاملة (أ)، فماذا وجدت؟ سعادة الموظف قام أكثر من سبع مرات ليسأل «المشرف» عن معاملة تجريها المؤسسة يومياً باعتبارها من أخص وظائفها، بل تقوم عليها كل الوظائف الأخرى! هل تعرف لماذا قام أكثر من سبع مرات؟ لأنه غير مؤهل وغير مدرب، وتم تعيينه بالواسطة. ولاحظ هنا أننى مع هذا الموظف لإجراء المعاملة (أ)، وقد حاولت أن أقنعه بإجراء المعاملة (ب) أيضاً، لكنه رفض، تنفيذاً لأوامر المدير. وبعد الانتهاء من المعاملة.. تعتقد -عزيزى القارئ- ماذا كانت المفاجأة؟ عندما تركت هذا الموظف وذهبت إلى المرحلة الثالثة لتنفيذ المعاملة (أ) متحسراً على عدم إجراء المعاملة (ب)، ومتحسراً أيضاً على عدم تنفيذ الإجراء (المستحيل!)، كانت المفاجأة التلقائية أننى اكتشفت أن ما تم هو المعاملة (ب) التى كانوا يطالبونى بالحضور فى يوم آخر لتنفيذها، وأن المعاملة (أ) التى كنا ننفذها طوال الوقت لم تتم! وخذ عندك المفاجأة الثانية أن الإجراء الذى كان يقول عنه المدير «إنه مستحيل»، نفّذه موظف المرحلة الأخيرة بتلقائية دون أن أطلبه منه. وخذ المفاجأة الثالثة أن الخطأ الذى وقع منهم كان حله إجراء كل المعاملات والإجراءات التى طلبتها فى البداية! والمفاجأة الرابعة أن هذا لم يستغرق سوى خمس دقائق بعد تدخل «المشرف». كل هذا فى مؤسسة تطبّق نظام الحوكمة، لكن بعض الكوادر البشرية بها غير مؤهلة وكسلانة. لكن لا بد من قول كلمة حق: إن نظام الحوكمة فى شقه الإلكترونى فى هذه المؤسسة كان ممتازاً، ولولا هذا لكانت أخطاء الموظفين وطريقتهم أدت إلى احتياجنا أسبوعين على الأقل. لكن تخيل معى ماذا لو كان جناحا العمل مكتملين: نظام الحوكمة والكوادر المؤهلة؟ إذن النتيجة التى نريد أن نخرج بها من هذه الحادثة: أن أى نظام مهما كان رائعاً لا يكفى وحده للنجاح، دون كفاءات بشرية. ومن هنا يجب أن يكون التغيير فى بلادنا للنظام الإدارى والبشر معاً. هنا سيسألنى القارئ الكريم: لكن ما معنى الحوكمة التى تُحدثنا عنها دون أن تعرّفها حتى الآن؟ وكيف يمكن أن تقضى على مثلث الرعب الإدارى: البيروقراطية التقليدية، والفساد، والعقم الإدارى؟ أرجو أن يكون هذا فى المقال المقبل بإذن الله..