أي مجتمع متماسك، يقوم على أسس متينة وعقائد ثابتة، لا يتأثر بأي هزات أو اختراقات، عليك أن تكون واثقا أن لديه طبقة وسطى عريضة قوية، واضحة الأطراف، معروفة الصفة (من مثقفين وأطباء ومهندسين... مهنيين بالمعنى المطلق) لهم حد أدنى من الدخل المتعارف عليه، وينتهون بحد أقصى من الدرجات العليا التخصصية (كأستاذ جامعي، مستشار، سفير،... كبار موظفي الدولة)، لهم أحياء سكنية بسيطة الرقي، ومدارس تجريبية أو شبه خاصة يلحقون بها أولادهم وجامعات ونوادٍ رياضية يذهبون إليها، واجتماعيات ومناسبات متشابهة يلتقون بها، كإفطار في رمضان أو عشاء لمناسبة عائلية وغالبا الأفراح وواجبات العزاء. فهم في عمل وكفاح للعيش الكريم وهذا مفهومهم عن (خلق الإنسان في كبد) وأن الرزق والعمل مذكور بعد العبادة (إياك نعبد وإياك نستعين) صدق اللة العظيم. هؤلاء يحافظون على مبادئ الوسطية: المعقول المقبول والمضمون المتاح، بالعمل الحلال والاحترام، تحت مظلة إخلاص النية لله عز وجل. الكثير من هذه الطبقة قاوم تيار الانزلاق في أحاديث ودروس عبئت في شرائط كاسيت، ثم ظهرت على الفضائيات، تحدثنا عن الثواب والعقاب، والحلال والحرام.. وهي في الأصل تجارة وليست دعوة. فهي تربت تصلي الفرض بفرضه وكيف تخرج زكاتها بعد حساب مدخراتها من رواتبها ل(المحتاج اللي تعرفه والعيان اللي موصيها) وتصوم رمضان، والقرآن في البيت (من الراديو كل صباح). وتحج مرة في العمر، مع العائلة أو زملاء من العمل إذا نظموا رحلة في متناول استطاعتهم. وللأسف، هي نفس الطبقة المستهدفة دائما للاختراق وتشويه المعتقدات وتشتيت الأفكار، لأنها الأكثر عددا والأهم تأثيرا في المجتمع، فهي أدباؤه وعلماؤه ومفكروه، طلابه وشبابه. فأقصى اليمين، استغل الحالة الاقتصادية الصعبة وتراجع فرص العمل والبطالة وسوء التعليم، فعمل على شدها وجذبها لفكر ومعتقدات متطرفة، إننا نعيش في ابتلاء دائم، ودين باطل لا نطبق حدوده ولا نؤدي واجباته ولا نرتدي زيه، ولا ننشر آياته، ولا نعمل بسنته ومقصرين في فرائضه والجهاد واجب بالنفس والمال (هو العمل مش جهاد ؟). وتآكل يمين الوسط شيئا فشيئا.. حتى انفصل معلقا! فهدفه شد المزيد من الوسط معه، حتى لا يظهر أنه ضعيف منكسر، منهار نفسيا لظروف اقتصادية صعبة. أما أقصى اليسار، فهو من لمعت عيناه بأنوار السيارات الفارهة، والطرق السريعة والمجتمعات السكنية الراقية وحمامات السباحة الخاصة، والسهرات والمصايف الفارهة حيث التعقيد والكلفة لا البساطة والألفة، وعطلات الشتاء والأعياد و(ال day use) والماركات العالمية حتى (في فوط الحمام) والبدع الغربية من وشم وشعر منكوش، بعد أن ضاعفوا مدخراتهم عن طريق البورصة أو العمولات أو الصفقات أو تجارة (ما) والتجارة ... شطارة! الكل كان موظفا (ودلوقتي فتحت مشروع لاب لاب لا ... أو باشتغل استشاري... تارا تا تا). وإن سألت عن ممتلكاتهم تجدها بتقسيط لا يدفعون فوائده، فيقسطون الفوائد عند بنك آخر أو ببطاقات ائتمان (ما يسمى ب plastic money). وتعلق اليسار بوهم اسمه: الأثرياء، لا يعلمون ما يطلق عليهم في مجتمع فقير. وانتهى الأمر إلى أن اليمين ازداد تطرفا وأسقط معه الشريحة الكادحة من الطبقة المتوسطة، أما اليسار فازداد انفتاحا وثراء وإبهارا، جاذبا معه القلة الهشة، المتطلعة. تآكلت الطبقة المتوسطة بهدوء مؤلم، وسكتت بخرس مجتمعي، رافضة للظاهرتين، وتقوقعت حفاظا على أصولياتها وقيمها التربوية. فالكثير من هؤلاء أصدقائها، يكفرونها وينصحونها (كأنها كافرة ضالة)، والباقون ينظرون لها بعين الحسرة والتشفي أنها لم تستطع اللحاق بالركب (اللي طالع على فين يعني؟) إن كان هناك لوما يوجه، فيوجه لمؤسسات الدولة السابقة، التي سمحت باختراق الأزهر الشريف، وغياب خطابه على مدار أكثر من 50 سنة. ولإعلام مبهر المشهد، ملون اللقطات، سطحي الأداء، سيئ التوجيه. وغياب دور الرياضة والنوادي باشتراكات بسيطة، لجذب الشباب للرياضة و ثقافة التنافس والتعارف والحوار المبكر، وليس الإرشاد والدعاة. وغياب لسياحة المعرفة educational tourism للطلبة المتفوقين ، ليعلموا كيف يفكر العالم غربه، والى أين وصل شرقه؟ في الخارج مختلف الفكر والهدف ، كما هو في الأسلوب والإنجاز. لا يشغل باله دينك أو لغتك أو لونك أو مالك أو جاهك، ولا ينتظر من دولة نامية نصحا وإرشاد. هو ينتظر منك الاحترام والعمل والصدق والمهنية (كل ده مافيش معلش أو عديها؟) إذا كنا نريد مجتمعا متماسكا قويا، فلنحرص على بقاء وسطيته المعتدلة. وكم سعدت شخصيا (ربما لأنها أول سيارة قدتها) أن الرئيس أمر بعودة شركة النصر للسيارات للإنتاج، إيمانا منه بأنها كانت سيارة الشعب. من منطلق أنه يرفض أن يتسلم رجال الأعمال والمصانع الخاصة أحلام الشباب والطبقة المتوسطة. وأتمنى أن باقي مؤسسات الدولة تقوم بدورها اتجاه "الوسطية"، والحفاظ عليها، فهي صمام أمان المجتمع. وللحديث بقية.