بسقوط كامل محافظة الرقة فى أيدى تنظيم داعش، يتحقق حلم التنظيم فى بناء رقعة جغرافية تتخطى الحدود السورية العراقية، وتضم الرقة السورية ومحافظة نينوى العراقية وعاصمتها الموصل وأجزاء من محافظة صلاح الدين وعاصمتها تكريت. وهى رقعة جغرافية كبيرة ومليئة بالموارد ويسكنها غالبية سنية فى البلدين لديها موقف معارض تماماً لحكومتى البلدين. ومع مرور الزمن وتمكن التنظيم من بناء إدارته الذاتية فى هذه الرقعة الجغرافية وقبول السكان لهذه الإدارة سواء تحت ضغط الإرهاب الداعشى أو بالقبول الطوعى، نصبح عملياً أمام خريطة واقعية جديدة فى المنطقة تختلف عما نعرفه منذ عقود طويلة. والغالب أن لا أحد سيعترف بهذه الإدارة الداعشية الإرهابية، ولا بهذا الوضع الذى يُنظر إليه كتهديد يجب محاربته بصورة جماعية وبأسرع وقت ممكن، وهو ما ظهرت مؤشراته الأولى فى 16 أغسطس الحالى حين صدر قرار مجلس الأمن رقم 2170، والقاضى باعتبار تنظيمى داعش وجبهة النصرة إرهابيْين، ودعا الدول وفقاً للفصل السابع من ميثاق الأممالمتحدة لعدم التعامل معهما مالياً ومحاربتهما. هذا القرار الدولى هو فاتحة باب أمام تعاون دولى وإقليمى لمواجهة هذين التنظيمين الإرهابيين، وإذا كان الأمر يسيراً نسبياً بالنسبة للعراق فى ظل الحكومة التى كُلف بتشكيلها حيدر العبادى بدلاً من نورى المالكى، فإن الأمر يبدو معقداً بالنسبة لسوريا طالما ظل الرئيس الأسد على قمة النظام، وهو الأمر الذى تعتبره دول إقليمية بحاجة إلى تغيير كما حدث مع المالكى بالعراق، لكى تتوافر إمكانية للتعامل مع النظام السورى لمواجهة تنظيمات الإرهاب هناك ودحر خطر داعش وإخوته. ومتابعة بسيطة لبعض التطورات التى تحيط بسوريا، وجرت مؤخراً، يمكنها أن تنبئ بتطورات مهمة قريباً، مثل اجتماع وزراء عدة دول عربية فى جدة برئاسة وزير خارجية السعودية، وشارك فيها وزراء خارجية مصر والإمارات وقطر وممثل لوزير خارجية الأردن، والذى خصص لمواجهة التطورات فى سوريا ومنظمات الفكر التكفيرى، والزيارة المرتقبة لمفتى سوريا لمصر ولقائه المنتظر مع فضيلة د. أحمد الطيب، شيخ الأزهر، وتصريحات الرئيس السيسى حول سوريا فى لقائه مع رؤساء تحرير الصحف المصرية، الذى أكد فيه وقوف مصر على مسافة واحدة مع النظام السورى والمعارضة، وأن لا حل سوى الحل السلمى ولا تفريط فى وحدة سوريا ولا مكان للإرهاب فيها. وكذلك تصريحات وليد المعلم وزير الخارجية السورى فى اليوم التالى التى أكد فيها استعداد بلاده للتعاون إقليمياً ودولياً وفقاً للقرار 2170 لدحر الجماعات الإرهابية فى الأراضى السورية، على أن يمر هذا التعاون من بوابة الحكومة الشرعية، حسب قوله. فضلاً عن استقبال السعودية مسئولاً إيرانياً كبيراً لبحث التطورات فى المنطقة. ويمكن للمرء الاستنتاج بأن هناك أفكاراً جديدة تدرس من أجل إبقاء سوريا الدولة والحدود دون تغيير يذكر، على أن يتم ذلك عبر صيغة سياسية تجمع النظام الحاكم بعد تغيير رأسه أولاً، مع تنظيمات المعارضة السورية التى لا تُحسب على القاعدة كجبهة النصرة وأخواتها، من أجل الدخول فى عملية سياسية مبادئها الرئيسية تتضمن وحدة سوريا، وحق الشعب السورى فى بناء نظام جديد يسمح لكل فئاته بالمشاركة والكرامة، والتخلى تماماً عن الحل العسكرى أو المناداة بالتدخل الدولى. وفى ضوء هذا الاستنتاج، يمكن فهم بعض التحليلات التى تُبشر بمبادرة مصرية لحل سلمى للأزمة السورية، تؤيدها الرياض وأبوظبى بصورة رئيسية، على أن تصاحبها خطوات من بينها مشاركة قطرية وإيرانية من أجل استنساخ المشهد العراقى الأخير المتمثل فى إبعاد نورى المالكى، وتطبيقه على سوريا، بحيث يتم إبعاد الرئيس الأسد لكى يسهل بعد ذلك على الدول الإقليمية والعربية الانخراط فى عملية سياسية لتشكيل حكومة جديدة يمكنها أن تحارب منظمات الإرهاب والتطرف والموجودة على الأرض السورية. وهناك ما يوحى بأن الملف السورى سيكون ملفاً رئيسياً فى اجتماعات وزراء الخارجية العرب فى سبتمبر المقبل بالقاهرة. ومن الواضح أن خطر داعش وإخوته له التأثير الأكبر فى تغيير المواقف على النحو السابق ذكره. فالمسألة لم تعد تخص سوريا وحدها، بل تخص مصير المنطقة ككل. والواضح أيضاً أن هذه المواقف الإقليمية الجديدة بافتراض صحتها قد جاءت متأخرة إلى حد كبير، وأن بعض السياسات التى طُبقت لعزل الحكومة السورية تماماً عربياً وإقليمياً، والدعم العسكرى الذى قُدم بسخاء لدعم المعارضة السورية بما فيها الجماعات التى ثبت أنها امتداد للقاعدة فكرياً وتنظيمياً، كان لها التأثير الأكبر فى وصول الوضع السورى إلى ما هو عليه الآن من تعقيد وتشرذم وانقسام وعداءات قوية بين السوريين أنفسهم، الأمر الذى سيتطلب سنوات طويلة وجهوداً جبارة لبناء الثقة الشعبية من جديد واستعادة التماسك المجتمعى السورى جنباً إلى بناء نظام سياسى جديد منفتح وتعددى ومتسامح مع نفسه ومع الغير دون طائفية أو استبداد. والواضح أيضاً أن أى عملية سياسية للحوار بين السوريين بعيداً عن تأثيرات الجماعات الإرهابية ستتطلب ضمانات عربية وإقليمية ودعماً دولياً بلا حدود، وتلك بدورها تحتاج إلى تغييرات جذرية فى مواقف العديد من الأطراف العربية سواء تجاه إيران وتركيا، كما تفرض تغييرات جذرية فى سياسات ومواقف هاتين الدولتين تجاه المصالح العربية المؤكدة ومن بينها عدم تدخل أنقرة فى الشئون العربية لأى دولة. وهو أمر لن يخلو من صعوبات وتعقيدات. فإذا كانت هناك خطوات مصرية تجاه سوريا وتتطلب مساندة تركية بشكل ما، فكيف لنا أن ننتظر ذلك فى الوقت الذى نشهد فيه تورطاً تركياً مباشراً فى مؤامرة التنظيم الدولى للإخوان المسلمين ضد الدولة المصرية على النحو الذى أكده الرئيس السيسى حين كشف استضافة تركيا لعدد من المؤسسات الإعلامية والصحفية الإخوانية التى أنشئت من أجل استقطاب نخبة فكرية وإعلامية نظير مقابل مادى كبير، بحيث تعمل على إثارة التوتر والانقسام المجتمعى فى مصر، والتمهيد لمواجهات أهلية وبين الإخوان وحلفائهم ومؤسسات الدولة المصرية. وبالرغم من كل هذه التعقيدات، فلا مفر من بذل الجهد تلو الجهد من أجل استعادة سوريا التاريخ والعروبة والوحدة، سواء لنفسها أو للعرب أجمعين، وإلا أصبح الانقسام حقيقة أبدية ولا عزاء حينئذ للوحدويين.