«أتت إلىّ الذكرى، وأنا فى ذكرى الَبشَرِ، العدم». جالسة تكتب تلك الكلمات فى مدونتها، تشعر بحيرةٍ كيف أصبحت بهذا الحال. وتُكمل الكتابة: «حتى الخيالُ فى عيون البشر قد يكون، فماذا ترانى أكون؟». ويصمت القلم، وتلمح البشر مارّين حولها دون كلام. ينظرون إليها نظرةً وكأن الشخص أمامهم سراب. تسأل نَفسها سراً ولكن السؤال لهم، وتتجرأ أن تصرخ فى وجوههم: أتعلمون بوجودى؟! أحالى مثلكم: أتكلم فتسمعون، أدمع فتحزنون، أضحك فتفرحون؟ وتعاود الكتابة: «أنا روح نَفسٍ.. أنا نبض قلبٍ.. وأنا طيفُ عَدمٍ خلقتموه». لم تفهم هذا المكان الذى تعيش فيه، بَشَر قد زارهم المرض وغيرهم قد كبروا فى العمر لدرجة أنهم لا يتحركون من أماكنهم.. وتكتب، أما أنا فأنا أعرف من أكون، أنا هبة فاروق، أو هكذا ينادوننى.. أنا كاتبة لقصص وخواطر، أو هذا ما أفعله حالياً. أنا.. ووقع القلم وبدأت عيناها تدمعان، من أنا؟ أخاف أن أنسى وأنا فى هذا المكان، أكتب كل يوم، وعندما أستيقظ أقرأ كل ما كتبت لعلى أعرف لماذا أنا هنا. وكلما بدأت أجد أولى الصفحات قد قطعت من مدونتى فلا أعلم أين أنا، وما أتانى إلى هنا. وبعد لحظات من السكون والحيرة، ذهبت هبة إلى غرفتها ونامت. وأتت ريم الممرضة لتطمئن عليها، وكما تفعل دائماً تفتح المدونة وتلقى نظرة لكى تقرأ أى جديد، فهى على علمٍ بأن السيدة هبة قد لازمتها حالةُ النكران وفقدان الذاكرة منذ أن توفى زوجها وتركها ابنها الوحيد فى دار المسنين. فتحت، ولأول مرة تجد كلماتٍ وعبراتٍ جديدة لم تعتد قراءتها من قبل، فجلست ريم وبدأت القراءة.. أتت إلىّ الذكرى، وأنا فى ذكرى الَبشَرِ، راحلة. حتى الخيالُ فى عيون البشر قد يكون، وأنا أعرف من أكون. أنا هبة فاروق، أنا روح نَفسٍ قد ضاق.. أنا نبض قلبٍ قد وَقف.. وأنا طيفُ ذكرى قد نَسَيتُموه. وقامت ريم وبلا تفكير لتكشف على نبض السيدة هبة، لتجده فى صمتٍ وسكون. فتقول ريم ببكاءٍ شديد: «الله يرحمك يا مدام عزة»..