احتفى «الداعشيون» القدامى والمحدثون بمسألة الخلافة أيما احتفاء، حتى رفعوا هذا الشكل للحكم من مجرد الاجتهاد البشرى إلى مرتبة القداسة، بل جعله البعض أصلاً من أصول الإيمان. وهناك عدة عوامل يمكن أن تفسر لنا ذلك التوجه «الداعشى»، أبرزها مواجهة حالة «التغريب» التى اجتاحت المجتمعات العربية والإسلامية، بداية من أواخر القرن الثامن عشر وما تلاه، وتشكل فئات أو جماعات محلية ترى أن سلوك مسلك المجتمعات الغربية هو الحل الأنسب لمعضلة النهضة، وليس العودة إلى الخلف وإعادة إنتاج تجربة الخلافة الإسلامية. اختار «الداعشيّون» التشرنق حول العودة إلى الكتاب والسنة وإحياء دولة الخلافة التى ترنّحت فى تركيا عام 1924، ورفع «المستغربون» شعار «التحديث» وقطع الصلة مع الماضى، على الأقل فى جانبه السياسى. وبينما انحاز الفريق الأخير إلى السلطة السياسية الحاكمة وأصبح جزءاً منها، وجد «الداعشيون» ملعباً مفتوحاً لدى الشعوب. وللأسف الشديد لم يتنبه «الدواعش» إلى فساد فكرة استرجاع الماضى كوسيلة لإصلاح الحاضر، ولم يتعامل «المستغربون» والحكام الذين خرجوا من رحمهم -بصورة نسبية- مع مشكلات الحاضر بالقدرة والمهارة المطلوبة، ولا التخطيط للمستقبل بالكفاءة المعقولة، فكانت النتيجة أن عجزوا عن إصلاح الحاضر أو البناء للمستقبل، فى حالات كثيرة. ولا خلاف على أن ل«الدواعش» عذراً فى الحلم باسترجاع دولة الخلافة والاحتفاء بها، لكنهم ينسون، وهم يتحدثون عن هذا النظام فى حكم الشعوب الإسلامية، أنهم يسترجعون فى الأساس تجربة الخلافة الراشدة التى لم تمكث أكثر من ثلاثين عاماً فى صفحات التاريخ الإسلامى، وقدمت صورة ناصعة للحكم، كما تصف كتب التراث، ولكن من جاء بعدهم من أمويين وعباسيين وعثمانيين لم يكونوا أمثالهم، ولم تخلُ التجارب الثلاث الأخيرة -كما هو معلوم- من الاستبداد والقمع على مستوى أسلوب الحكم وإدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، بالإضافة إلى صب كل خيرات الدولة فى «حجر» الأرستقراطية الحاكمة، وحرمان وسحق الشعوب وتجهيلها وتخديرها وإغراقها فى القصص والحكاوى، والفروض والنوافل، والحلال والحرام، والتشدُّد والدروشة حتى تمكنت من إهلاك الشعوب المسلمة قروناً عدداً، الأمر الذى هيأها بعد ذلك للوقوع فى براثن الاستعمار الغربى لخيراتها وأراضيها. انزعج الشيخ حسن البنا -أيما انزعاج- بعد أن أعلن الضابط مصطفى كمال أتاتورك إلغاء الخلافة الإسلامية، وكان ذلك واحداً من الأسباب التى دفعته إلى تكوين جماعة الإخوان من أجل استعادة الخلافة، رغم أن العثمانيين لم يختلفوا كثيراً فى تعاملهم مع المصريين عن الإنجليز المحتلين، ومن المرجّح أن كلام «البنا» حول استعادة الخلافة يتسكع فى رأس رجب طيب أردوغان، وقد يفسر لك ذلك الدفاع التركى المستميت عن الرئيس المعزول محمد مرسى وجماعته. الدفاع عن الخلافة العثمانية فى الوجدان الداعشى يعكس حالة من الولع لدى أصحاب هذا الفكر بفترات الأزمة فى التاريخ التى أنتجت فقه التشدُّد وسياسات الإقصاء للمغايرين والذبح لغير المطيعين، لكن يبقى أن أكثر من ساعدهم على الوجود والصعود هم الحكام الذين يتسلطنون على كراسى السلطة داخل «الدولة الوطنية» التى ورثت دولة الخلافة. هؤلاء الذين احترفوا الفشل والتفشيل!