تاريخ الظلم والعذاب والتعذيب والنهب فى مصر طويل بقدر تاريخها إلا القليل، وكان الحكام الغرباء الذين يعينهم الفاتحون أو الغزاة فيها ينضحون بكل ما فى وسعهم خيراتها وعوائدها إليهم، واقترن جمع المطلوب غالباً بظلم وعذاب بيّن، ولا يستثنى من ذلك عهد فتح إسلامى او احتلال كافر، لدرجة أن الخليفة العظيم عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) كان يستخف بما يرسله له عمرو بن العاص، والى مصر، من خراج ويتعجب متسائلاً: ما هذا؟ سمعنا أن مصر قبلك كانت تُرسل كذا وكذا للغازين فأرسل. وظل الحال هكذا طوال التاريخ المصرى الحزين حتى جاء الاحتلال الذى أسس الخلافة العثمانية فأضاف نضح المهرة من المصريين أنفسهم وأخلى البلاد من كفاءاتها لتخرب. إننى لا أحكى لكم فى التاريخ، بل عن الحاضر والمستقبل المخيف الذى يحكم فيه الرئيس مرسى وهؤلاء المشتاقون لأيام الذل والكرباج، فاستقبلوا أردوغان طالبين عودة الخلافة الإسلامية التى خلّصنا منها محمد على، هؤلاء الذين ينكرون الوطن ويقولون طظ فى مصر طالما كانت ولاية تابعة وذيلاً كسيراً. ظلت مصر ولاية خادمة تُحلب بالكرباج والخازوق ويُعتصر حليبها لبلاد أخرى وشعوب أخرى حتى جاء محمد على الذى استقل بمصر وسيّدها على نفسها وبلاد أخرى وشعوب أخرى، وقد نجح فى ذلك لأنه سعى أساساً للمصلحة المصرية، ولذا استقل عن الخلافة الإسلامية العثمانية التى لم يتوان سلطانها عن السعى الدؤوب مع الدول الأجنبية للخلاص منه ومن طموحاته العظيمة التى ستمنع عنه البقرة الحلوب، ونجح محمد على لأن مرجعيته كانت العقل لا النقل وأحدث علوماً وصلت إليها الدول المتقدمة مثل فرنسا وإيطاليا، ويمكن القول إنه أنشأ دولة توحدت من قرى (أو إقطاعيات) يديرها عمدة وشيوخ يمنعون أهلها من حرية التنقل، حيث كانت مصر مقسمة إلى مناطق يتولاها أمراء المماليك المتصارعون الذين يرأسهم الوالى، وأنشأ لأول مرة الديوان العالى والدواوين الفرعية (الوزارات) التى كوّنت الموظفين فأعاد لمصر الحكومة المركزية بعد قرون كانت الإدارة فيها شخصية وبالبركة! قرية لم يكن لها جيش وطنى فدافع عنها أهلها بالنبابيت والنبال، كما ظهر بعد فرار المماليك العثمانيين (دولة الخلافة) أمام الحملة الفرنسية وانكشاف أن قوتهم لم تكن مؤهلة إلا لقتل ونهب المصريين. وسعى محمد على لبناء جيش يحفظ وحدة البلاد ويحميها ويستقل بها ويسود بعد ما صار قوة عالمية، لكن المصريين أنفسهم قاوموا بشدة الانضمام له حتى إنهم أحدثوا عاهات بأنفسهم فاستخدم محمد على القهر لجلب مجندين للجيش دون تمييز، ورفض المشايخ وحرموا واعتبروا أن النظام الجديد على النسق الأوروبى بدعة وضلالة فى النار وتعاونوا مع المماليك والأتراك ومارسوا ضغوطاً على الشباب وحرضوهم على عدم الانصياع لتعاليم الفرنجة فى المدارس والجيش بدعوى مخالفة الشرع والقرآن لكن أحدهم -ويبدو أنه من المنتفعين الجدد كما يظهر من لغته- رأى أنه لا مانع من (إحضار جند معلمين كفار عارفين بصناعة حرب الكفار ووجوب تعليمها ليدرأ الشر بمثله) لم يهتم الباشا واستمر فى إرسال بعثات واستقدام ضباط نابليون بعد سقوط الأخير وتأسيس المدارس على العلم الغربى. أبناء هذا الجيش (7% من السكان) قاموا بعد ذلك بالثورة العرابية منكرين الولاء للعثمانى الغاشم بدعوى الإسلام ومطالبين -بعد التعلم والممارسة والمشاركة والنضج- بحق مصر والمصريين وساعدهم إحساس العزة الوطنية كشعور مشترك بسبب انتصارات وهزائم سابقة خاضها جيش وطنى تكون من فئات الشعب ريفى ومدينى وفلاح وبدوى ومسلم ومسيحى، مما قلّص الطائفية التى تتعارض مع المدنية أو العلمانية -التى تسمو بالدين فى الحقيقة- ووضع أساسها محمد على فى دولة قومية.