مما لا شك فيه أن ما شهدته المنطقة في الآونة الأخيرة من أحداث متعلقة بظهور جماعات إسلامية راديكالية متشددة في الساحة السياسة ساهم في خلق موجة إلحاد عارمة لعب فيها غياب تحديث وتطوير الخطاب الديني دور العامل المحفّز في التفاعلات الكيميائية، فهناك تصنيفان للعقول البشرية على مر التاريخ، وهما عقول مؤمنة متّبعة وعقول كثيرة الشك، والإيمان هنا ليس بالضرورة أن يكون أيمانًا بدينًا بعينه، وإنما قد يكون إيمانًا بفكرة ما أو قضية أو توجهًا قد يكون سياسيًا أو اجتماعيًا. ومن أشهر وأول من استفاض في الحديث عن الشك وآلياته هو الفيلسوف الفرنسي رينيه دي كارت الذي ربط الشك بتقدم البشرية، فالشك يولّد البحث والبحث يولّد النقد والنقد يولّد التحديث والتطوير، الأمران اللذان نحتاجهما بشدة لطالما يتقدم الزمان ويتغيّر المكان، ومن الطبيعي وجود عقليات مؤمنة متبّعة لا تشك، كعقلية الصحابي الجليل أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه، فهو أوّل من آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام من الرجال، ولعب دورًا عظيمًا في نشر الرسالة. لذلك نستنتج مما سبق أن البشرية في حاجة إلى كلا النوعان من العقليات ولا يصح إقصاء إحداهما وإلا حدث خللا ما في المجتمع، فتكفير ومهاجمة العقلية كثيرة الشك أدى إلى إصابة أصحابها بحالة من الغربة النفسية تحدث عنها الكاتب الإنجليزي في كتابه "ما بعد اللا منتمى"، فعادة يدفع ذلك النوع من الغربة صاحبه إلى حالة من التمرد تؤدي به إلى الإلحاد أو إلى الهجرة، في حين أن المناظرات المفتوحة وتقبل رأي الآخر ونقده في إطار علمي منطقي سليم قد يغذي عقول المؤمنين والغير مؤمنين بمعلومات لا تقدر بثمن، وستؤدي إلى تنافسًا ثقافيًا بين فئات المجتمع وبعضها وبين الكتاب والمفكرين والباحثين وبعضهم، مما سوف يساهم قطعًا في الارتقاء الثقافي والأدبي للمجتمع برمته. ما رأيناه مؤخرًا من مهاجمة بعض الأزهريين لبعض التصريحات على لسان أزهريون زملائهم مهاجمة شرسة تصل إلى التكفير، ليس في مصلحة الأزهر كمؤسسة ولا الإسلام كدين ولا مصر كمجتمع، لماذا لا تناظروا بعضكم البعض بدون تكفير أو إهانة على مرأى ومسمع الأمة لتستفيد وتستنير عقول المشاهدين، كفانا هجومًا وشراسة لبعضنا البعض ولنحترم الرأي الآخر، وإن كان شاذًا فأغرب وأغلب الآراء والأفكار تنهار أمام الحجة المنطقية، كفاكم تقديسًا للأئمة ولاجتهاداتهم وتعصبًا من أجل الدفاع عنها، ولترجعوا إلى المنطق والحكمة والحوار ولتعيدوا البحث والتحديث، فالكل خاسرًا أمام الإقصاء والكل مستفيدًا أمام الحوار.