لم تخلُ مرافعات رجال مبارك أمام قاضى محاكمة القرن من ذكر آيات من القرآن الكريم أو أحاديث وأدعية نبوية، ناهيك عن «الحلفان» بأغلظ الأيمان للتدليل على صدقهم، وبدا المشهد وكأننا أمام محكمة المتهمون فيها من جماعة الإخوان التى احترفت التجارة بالدين. لقد أبهرنى أحدهم وهو يختم مرافعته بالدعاء النبوى: «اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس»!.. ما كل هذا الورع والتقى يا رجال مبارك؟! الأمر يبدو كجزء من ثقافة عامة ينتمى إليها المصريون تقوم على التمحك بالدين فى المواقف الصعبة، وفى السهلة أيضاً كى نكون منصفين. ولو أنك وقفت أمام طرفين متخاصمين فى أى موقف فسوف تجد أن كليهما يتحدث بلسان «القرآن» و«الحلفان» دون تردد. من المؤكد فى كل الأحوال أن أحدهما صادق والآخر كاذب، لكنك بحال لا تستطيع أن تميز هذا من ذاك! ولو أن من يلوكون آيات الذكر الحكيم بألسنتهم، أو يتلون كلام الله دون أن يجاوز حناجرهم، فهموا معانيه ووعوا أحكامه بشكل جيد لأدركوا أن كثرة الحلف من الأمور المنهى عنها شرعاً. فالله تعالى يقول: «ولا تطع كل حلاف مهين»، فالشخص الذى يكثر الحلف «مهين». ويقول تعالى: «ومن الناس من يعجبك قوله فى الحياة الدنيا ويشهد الله على ما فى قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى فى الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد». وتصف هذه الآية حال أناس يتحدثون بكلام طيب يثير الإعجاب، ويدلل هؤلاء على صدق ما يقولون بالحلف بالله، حتى إذا فلتوا بكذبهم، إذا بهم يسعون فى الأرض فساداً ويهلكون الزرع والبشر. التمحك بكلام الله ينبغى ألا يصبح دليلاً على صفاء النية وحسن الطوية، لأن فارقاً كبيراً بين من يستدعى السماء وتعاليم السماء فى أقواله، وبين من يعمل بما ترتكز عليه هذه الآيات من قيم وأخلاقيات وتعاليم. فلسان الإنسان هو أضل أداة للحكم عليه، فالإنسان يحكم عليه من أفعاله وأعماله وممارساته، ومن ينصت إلى ألسنة الكثير من المصريين فسوف يجد أن عبارات الحمد لله، وإن شاء الله، وقال الله، وقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، هى أكثر العبارات التى تتردد فى كلامهم. وأن الحلف بالله «لبانة» فى أفواههم. الكل يحلف، يستوى فى ذلك البسطاء مع الأثرياء، والأميون مع المتعلمين، وأهل الريف مع أهل الحضر، والشعب مع أهل السلطة. الكل يحلف فى كل المواقف دون أن يكترث بشىء، الكل يزعم أنه لا يستطيع أن يكذب -وهو يكذب- لأنه يؤمن بأنه سوف يلقى الله وسيحاسبه على ما يقول، وكأنه يقدم لنا اكتشافاً خطيراً ينبهنا إلى صدقه! إن لنا أن نسأل: لو كان رجال مبارك أطهار أنقياء كما يزعمون فكيف حدث ما حدث من خراب وفساد داخل هذا البلد خلال العقود الثلاثة لحكم «المخلوع»؟ مؤكد أنهم -حال إجابتهم على هذا السؤال- سيحلفون لنا بأغلظ الأيمان أنه ليس لهم يد ولا رجل ولا أنف ولا عين فى ذلك، إنهم يملكون لساناً وفقط يحلفون به لنا. ولا أجد تعليقاً على ذلك أبدع من المثل المصرى الذى يقول: «قالوا للحرامى احلف. قال جالك الفرج»!