كان الشيخ رشيد رضا من أشد المنادين بأن يكون الإصلاح عن طريق التربية والتعليم، وهو فى ذلك يتفق مع شيخه محمد عبده فى أهمية هذا الميدان، ويرى أن سعادة الأمم بأعمالها، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها، خلافاً للشيخ جمال الدين الأفغانى -شيعى التوجه- الذى لم يرَ للثورة بديلاً. وحدد «رشيد رضا» العلوم التى يجب إدخالها فى ميدان التربية والتعليم لإصلاح شئون الناس، ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والعرفان. ولم يكتف بدور الموجه والناصح، وإنما نزل ميدان التعليم بنفسه، وحاول تطبيق ما يراه محققاً للآمال، فأنشأ مدرسة «دار الدعوة والإرشاد» لتخريج الدعاة المدرّبين لنشر الدين الإسلامى ودعم الخلافة الإسلامية، وجاء فى مشروع تأسيس المدرسة أنها تختار طلابها من طلاب العلم الصالحين من الأقطار الإسلامية، ويُفضّل من كانوا فى حاجة شديدة إلى العلم كأهل جاوة والصين، وأن المدرسة ستكفل لطلابها جميع ما يحتاجون إليه من مسكن وغذاء، وأنها ستعتنى بتربية طلابها على التمسُّك بآداب الإسلام وأخلاقه وعبادته، كما تُعنى بتعليم التفسير والفقه والحديث، فلا خير فى علم لا يصحبه خلق وسلوك رفيع، وأن المدرسة لا تشتغل بالسياسة، وسيُرسل الدعاة المتخرجون إلى أشد البلاد حاجة إلى الدعوة الإسلامية. واللافت للنظر فى هذا المشروع الذى تبنّاه الشيخ «رشيد رضا» أنه اشتمل على عدد من الأفكار والمصطلحات التى راجت داخل جماعة الإخوان المسلمين، مثل فكرة الدعوة إلى الله، وعالمية الدعوة، واستحضار فكرة الخلافة الإسلامية، بالإضافة إلى ظهور مفردة «إرشاد»، وهى تلك المفردة التى تأسس عليها «مكتب الإرشاد» الذى يمثل ما يُشبه مجلس إدارة الجماعة. فى ضوء ذلك يمكن القول إن الشيخ رشيد رضا أحدث نقلة فى المفاهيم التى اعتمد عليها الخطاب الإصلاحى للشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوى وغيرهما، خصوصاً فيما يتصل بالعودة إلى مفهوم الخلافة الإسلامية والنكوص عن فكرة الدولة الوطنية التى طالب الإصلاحيون المحافظون بإيجادها وتقويتها حتى تستطيع مواجهة الأطماع الاستعمارية، الأمر الذى يعنى أن الشيخ رشيد رضا مهّد لصعود خطاب سياسى جديد، ارتد عن مجمل التراث النهضوى فى المسألة السياسية، وكان مرجعاً له، وهو: الخطاب الإسلامى الصحوى الذى خلط بين قناعات فقهية سُنيّة وتوجهات سياسية شيعية، ويمثل كتاب «الخلافة أو الإمامة العظمى» للشيخ «رشيد» الرافد الأساسى لفكر ما بات يعرف لدى مؤرخى الفكر باسم الصحوة الإسلامية. وقد وجدت هذه الأفكار صداها لدى الشيخ حسن البنا، خصوصاً فكرة الدولة الإسلامية فى مقابل الدولة الحديثة، وفكرة الترجمة الحركية لأفكار الخطاب «الإصلاح التربوى» من خلال تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، التى اعتمدت على منهج التربية الذى نوّه إليه وسلط الضوء عليه الشيخ محمد عبده، لكنها طبّقت هذا المنهج بمحتوى موضوعى يستمد روافده من أفكار وكتابات الشيخ رشيد رضا. كان الشيخ رشيد رضا بالذات هو الباب الفكرى المشرّع الذى ولج منه الخطاب الصحوى إلى الميدان عبر تلميذه حسن البنا، ذلك أن رشيد رضا حين ينقلب على الموضوعات الإصلاحية فى الدولة الوطنية ليرتد إلى فكرة الخلافة الإسلامية، فإنه يقدم دليلاً قوياً على إخفاق الفكرة الإصلاحية حول الدولة، ويعطى الانطباع بأن هذه الفكرة تراجع نفسها ورهاناتها من خلال أحد أهم رموزها وامتداداتها، مما يفتح الطريق أمام شرعية لا نزاع عليها للخطاب الإسلامى الصحوى. أحيا حسن البنا فكرة الخلافة عملياً بعد أن نظّر لها الشيخ رشيد رضا، ولم يفلح الشيخ على عبدالرازق فى هز هذه الفكرة فى بحثه الرصين «الإسلام وأصول الحكم»، ولعل السر فى ذلك هو السمت «الشعبوى» الذى أكسبه «البنا» للفكرة، مستلهماً فى ذلك التراث الشيعى للعمل السرى الذى يخلب عقل الشباب، والاغتيالات السياسية التى ارتبطت بتاريخ شيخ الجبل «حسن الصباح»، ولم يفلت منه أيضاً تعليم مريديه مبدأ «التقية» وهو مبدأ سياسى شيعى أصيل، بالإضافة إلى استخدام مفردات ذات ظلال دلالية شيعية مثل «الإمام» و«الإرشاد» وغيرها. والتاريخ يسجل أن «الإخوان المسلمون» دعت «نواب صفوى» الثورى الإيرانى المعروف ومؤسس حركة «فدائيان إسلام» لزيارة مصر عام 1954، وقوبل الرجل بحماس شديد وترحيب حار من قِبل الإخوان المسلمين الذين أرادوا توطيد علاقتهم بهذه الحركة الشيعية الإيرانية المناهضة للشاه فى الخمسينات. ويقول عباس السيسى أحد قيادىِّ الإخوان المسلمين -فى كتابه فى قافلة الإخوان المسلمين- فى معرض تعليقه على هذه الزيارة: «وصل إلى القاهرة فى زيارة لجماعة الإخوان المسلمين الزعيم الإسلامى نواب صفوى زعيم «فدائيان إسلام» بإيران، وقد احتفل بمقدمه الإخوان أعظم احتفال، وقام بإلقاء حديث الثلاثاء، فحلّق بالإخوان فى سماء الدعوة الإسلامية، وطاف بهم مع الملأ الأعلى، وكان يردد معهم شعار الإخوان: الله أكبر».