أبسط تعريف للاعتكاف أنه عبادة الله، عز وجل، بالوجود فى مسجد معين بالصمت عن اللغو، فلا يتكلم إلا بخير. وأصل كلمة الاعتكاف -على وزن افتعال- بمعنى الملازمة والحبس، فلو قلت: فلان عكف على عمله يعنى لازمه وواظب عليه، ولو قلت: عكفت نفسى فى المسجد أى حبست نفسى فيه. والحقيقة أن كل إنسان يحتاج بين الفترة والأخرى أن يحبس نفسه عن الكلام الذى لا فائدة فيه، وعن الجدال ليعيد ترتيب أفكاره ويتفكر فى كيفية تطوير عمله وتصحيح علاقته مع الله، سبحانه وتعالى، وكيفية استعداده لاستقبال آخرته فى كل وقت، وكيف يصالح صاحبه وجاره وزميله، وكيف يرضى زوجته دون أن يخسر أهله، وكيف يقوِّى علاقته بأولاده، وكيف يجعل غده أفضل من يومه. ولما كانت مثل هذه الأسئلة وغيرها تصب فى خدمة الإنسان ومهمته الإعمارية التى خلقه الله، عز وجل، من أجلها، فقد جعل الله، سبحانه وتعالى، بيته أو مسجده مكاناً لاستضافة كل المعتكفين، وأمر الأنبياء وكل الإصلاحيين أن يُطهروا بيوته من كل شىء فاسد كالقذر أو الاستقطاب أو الخوف فقال سبحانه: {وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (البقرة: 125)، وهذا لأن الاعتكاف يأتى بنتيجة إيجابية فى مراجعة الإنسان لنفسه، فينتفع بمرحلة الصمت عن اللغو التى ورد فى فضلها أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه أحمد والترمذى بسند صحيح عن عبدالله بن عمرو بن العاص، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «من صمت نجا»، وأخرج البيهقى فى «شعب الإيمان» بسند ضعيف، لكن صحَّح أنه موقوف من قول لقمان الحكيم، عن أنس بن مالك، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «الصمت حكمة وقليل فاعله»، وصدق الله حيث يقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِى صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} (المؤمنون: 1-3). وحتى لا يساء استخدام الاعتكاف فى استقطاب الناس وتجنيدهم فى جماعات حركية باسم الدين، ويخرج المعتكف من المسجد بعد فترة اعتكافه إرهابياً أو ساخطاً على المجتمع، فقد جعل الإسلام الاعتكاف سنة وليس فرضاً إلا بالنذر، حتى يستطيع كل إنسان ضبط نفسه بنفسه ويكون قراره فى يده، بحيث إذا رأى أن الاعتكاف سوف يساعده على غسل همومه ونسيان المكر الذى وقع عليه أو الغش والنصب الذى رآه من قبل دخوله معتكفه، فإنه يكمل سنة اعتكافه، أما إذا رأى أن الاعتكاف قد أوقعه مع أناس سوف يشغلونه عن الاستجمام من هموم الدنيا، فيبقى القرار فى يده، ويخرج من المعتكف الذى لن يحقق له مقصده، وهذا ما فعله النبى، صلى الله عليه وسلم، كما ورد فى صحيح البخارى عن عائشة قالت: إن النبى، صلى الله عليه وسلم، ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، قالت: فاستأذنْتُه فأذن لى -أى أذن ببناء بيت من قماش فى المسجد- قالت: وسألتنى حفصة أن أستأذن لها فأذن لها، قالت: فلما رأت ذلك زينب بنت جحش أمرت ببناء فبنى لها. قالت عائشة: وكان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا صلى انصرف إلى بنائه فبصر بالأبنية فقال: ما هذا؟! قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب، فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «آلبر أردن بهذا؟! ما أنا بمعتكف»، فرجع فلما أفطر اعتكف عشراً فى شوال. وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه، وإنه أمر بخبائه فضرب -أراد الاعتكاف فى العشر الأواخر من رمضان- فأمرت زينب بخبائها فضرب، وأمر غيرها من أزواج النبى، صلى الله عليه وسلم، بخبائه فضرب، فلما صلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الفجر نظر فإذا الأخبية فقال: «آلبر تردن؟!» فأمر بخبائه فقوض وترك الاعتكاف فى شهر رمضان حتى اعتكف فى العشر الأُوَل من شوال. لذلك، كان الاعتكاف سنة فى أى يوم من أيام السنة، لكنه فى شهر رمضان أشد تأكيداً، وفى العشر الأواخر من رمضان أشد تأكيداً وأشد. ونحن فى هذه الأنبوشة سوف نبين بعض أهم أحكام الاعتكاف التى تحمى المكلف من أوصياء الدين، الذين يهدفون إلى السيطرة على عوام الناس بحجة أنهم سوف يعلمونهم الأصح فى المطلق، مع أن الأصح فى الفقه متعدد الأوجه كما سنعرف فيما بعد، وهؤلاء الأوصياء يريدون تشكيك الإنسان المكلف فى نفسه حتى لا يستفت قلبه كما قال النبى، صلى الله عليه وسلم، وإنما يستفتيهم هم، فبدلاً من أن يقودك عقلك وضميرك تراهم يقومون بالاستيلاء على عقلك وضميرك. ومسائلنا فى الاعتكاف هى: مكان الاعتكاف، وأقل زمن للاعتكاف، وهل يشترط الصوم لصحة الاعتكاف فى الصوم؟ وحكم الكلام للمعتكف. الحكم الأول: مكان الاعتكاف. لا يجوز الاعتكاف إلا فى مسجد بالإجماع؛ لقوله تعالى: {وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِى الْمَسَاجِدِ} (البقرة: 187)، ولأن الاعتكاف ضيافة عند الله، والمساجد هى بيوت الله فى أرضه، وقد أخرج أبونعيم عن أبى سعيد الخدرى، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال عن رب العزة: «إن بيوتى فى الأرض المساجد، وزوارى فيها عمارها». واتفق الفقهاء على أن خير المساجد المسجد الحرام ثم المسجد النبوى ثم المسجد الأقصى، ثم كل مسجد جامع تقام فيه الجمعة والجماعات. واختلف الفقهاء فى حكم صحة الاعتكاف فى المساجد الصغيرة التى لا تقام فيها الجمعة مطلقاً، كما لا تقام فيها صلاة الجماعة للمكتوبة بانتظام. مثل المسجد الملحق بالدواوين الحكومية، أو المكان الذى خصصه صاحب الفيلا أو الدار مسجداً، وذلك على أربعة مذاهب فى الجملة: (1) أبوحنيفة ومذهب الحنابلة، قالوا: لا يجوز الاعتكاف للرجال إلا فى مسجد تقام فيه الجماعة، أما النساء فلهن الاعتكاف فى كل مسجد. (2) أبويوسف ومحمد وأكثر الحنفية والقديم للشافعية قالوا: كل ما يسمى مسجداً يجوز الاعتكاف فيه للرجال. أما المرأة فيصح اعتكافها فى مسجد بيتها؛ لأنه أفضل مكان لصلاتها، فقد أخرج ابن حبان عن ابن مسعود، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال عن المرأة: «لا تكون إلى وجه الله أقرب منها فى قعر بيتها». (3) المالكية والمذهب الجديد للشافعية: يجوز الاعتكاف فى كل ما يسمى مسجداً للرجال والنساء على السواء. فقد أخرج الشيخان عن ابن عمر، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله». (4) حذيفة بن اليمان قال: لا يصح الاعتكاف أصلاً إلا فى أحد المساجد الثلاثة المشهورة: المسجد الحرام والمسجد النبوى ومسجد القدس. الحكم الثانى: أقل زمن للاعتكاف. فيه مذهبان: (1) الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة): أقله ساعة تقديرية عرفاً ولو بمقدار تسبيحة، وليس ساعة الدقائق. (2) المالكية: أقله يوم بليلة. وبعض المالكية يرى أن اليوم يبدأ من أول الليل (المغرب)، وبعضهم يرى أن اليوم يبدأ من الفجر، ومن اعتكف أقل من يوم فليس بمعتكف. الحكم الثالث: هل يشترط الصوم لصحة الاعتكاف؟ مذهبان: (1) المالكية ورواية عن أبى حنيفة: الصوم ركن للاعتكاف مثله مثل النية؛ لما أخرجه الدارقطنى والحاكم والبيهقى بسند فيه ضعيف عن عائشة، أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال: «لا اعتكاف إلا بصيام». (2) جمهور الفقهاء يرى أنه يصح الاعتكاف دون صوم، وإن كان الصوم للمعتكف هو الأفضل؛ لما أخرجه الشيخان عن عائشة أن النبى، صلى الله عليه وسلم، اعتكف العشر الأول من شوال. والمعروف أن أول شوال عيد لا يصام فيه. الحكم الرابع: الكلام للمعتكف. المعتكف ليس ممنوعاً من الكلام؛ حتى قال الحنفية: إن اعتقد المعتكف أن الصمت من شعائر الاعتكاف فهو اعتقاد فاسد يقع صاحبه فى درجة الكراهة التحريمية (إلى الحرام أقرب). وقال الحنابلة: هو مكروه تنزيهاً وليس تحريماً. واختلف الفقهاء بعد ذلك فى أى كلام يتكلم به المعتكف: (1) الحنفية قالوا يتكلم بخير، أما اللغو فيكره كراهة تحريمية. (2) أكثر المالكية والحنابلة قالوا: يتكلم بالذكر والقرآن والصلاة، وغير ذلك يكون مكروهاً. يستوى فى ذلك كلام الناس الذى لا طائل من ورائه، أو الاشتغال بتدريس العلم ومناظرة الفقهاء؛ لأن النبى، صلى الله عليه وسلم، كان يعتكف، ولم ينقل عنه الاشتغال بغير الذكر والقرآن والصلاة. (3) الشافعية وبعض المالكية والحنابلة قالوا: يتكلم حيث يشاء ما لم يكن إثماً كالغيبة والنميمة، والأفضل أن ينشغل بالذكر والعلم. إلى هنا ينتهى دور المتحدث فى فقه الدين، فبعد أن بين كل ما يعرفه من أقوال الفقهاء فى المسائل المطروحة بقيت سيادة الاختيار للمكلف المتلقى بحسب قناعة عقله واطمئنان قلبه. وإلى لقاء جديد غداً بإذن الله مع أنبوشة فقهية أخرى.