هذه هى المرة الثالثة التى نشهد فيها هذا العدوان الإسرائيلى على غزة، وفى كل مرة يتكرر نفس المشهد مع فروق قليلة، حتى بات السيناريو محفوظاً لدرجة الملل الذى أفقد الناس الاهتمام رغم أرواح الشهداء والأبرياء: تصعيد بين حماس وإسرائيل فيما الطرفان يتبادلان الاتهامات بالمسئولية عن بدء العدائيات. تسقط صواريخ حماس التى لا تقتل أحداً على إسرائيل فيما طائرات إسرائيل تقصف غزة فتقتل الأبرياء. يساند المنافقون فى الغرب إسرائيل التى تدافع عن نفسها ضد صواريخ حماس الاستعراضية، وتضغط حماس وأبواقها وبعض الأصوات حسنة النية على مصر لفتح المعابر وتقديم الدعم ل«حماس». يضعف موقف السلطة الفلسطينية التى يتم وضعها فى موقف تبدو فيه معدومة الصلة بما يحدث للفلسطينيين فى غزة. يتعزز موقف حماس فى مواجهة السلطة الفلسطينية ومصر. بعد أيام من القتال وأعداد كبيرة من الضحايا يتم ترتيب اتفاق للتهدئة بوساطة مصرية، ويعود الوضع إلى ما كان عليه، فيتواصل الاحتلال الإسرائيلى، ولا يتقدم الشعب الفلسطينى خطوة واحدة فى اتجاه تحقيق أهدافه الوطنية، أما ما يتغير فهو ميزان القوى السياسى بين حماس والسلطة الفلسطينية ومصر، أو بين معسكرَى الاعتدال التفاوضى والاعتدال المسلح، والمعسكران من النواحى الفعلية والسياسية والأخلاقية متساويان، فكلاهما معدوم الحيلة فى حل قضية الفلسطينيين العادلة. هذا هو ما حدث فى حرب عام 2008 على غزة والذى تكرر مرة أخرى فى عام 2012، وها هو يتكرر مرة ثالثة الآن. فى المرة الأولى نجحت «حماس» فى تأكيد سلطتها على قطاع غزة فى استقلال عن السلطة الفلسطينية بعد أن نجحت فى يونيو 2007 فى طرد قوات السلطة ومؤسساتها من القطاع. فى حرب 2008 أكدت حماس بشكل عملى انفرادها بقرارات الحرب والسلام فى غزة، وبأنها السلطة التى يجب التحدث معها فيما يخص القطاع. خرجت مصر من هذا الصراع جريحة بعد أن تم تصويرها وكأنها متضامنة مع إسرائيل فى محاصرة غزة، وكانت سلسلة الحملات الدولية للتضامن مع غزة، والتى أساءت كثيراً إلى صورة مصر، جزءاً من هذا السيناريو. فى حرب عام 2012 تم ترتيب الأمر بحيث تستفيد منه حكومة محمد مرسى الذى أطلق شعارات حماسية وأرسل رئيس وزرائه لساعات قليلة قضاها فى غزة، فيما كان مرسى يرتب اتفاقاً جديداً للتهدئة جاءت شروطه أكثر صرامة من الاتفاقات التى سبق لحكومة مبارك ترتيبها. خرج مرسى فائزاً من هذا الصراع حين بدا وكأنه الوحيد القادر على لجم جماح فرع الإخوان فى غزة. زادت ثقة الأمريكيين فى حكومة الإخوان. الرصيد الذى حققه مرسى والإخوان فى إنهاء الحرب فى غزة استخدموه لإصدار الإعلان الدستورى سيئ السمعة الذى أعلنه مرسى فى نفس يوم التوصل للهدنة بين حماس وإسرائيل، وفى ارتباط واضح بين ما يجرى فى غزة وصراع السلطة فى مصر. ستنتهى الحرب الجارية على غزة بعد عدة أيام وعدد أكبر من الشهداء واتفاق جديد للتهدئة، وستنجح حماس فى نهاية الحرب فى تعديل صورتها من صورة فرع الإخوان المشارك فى المخطط الإقليمى الإخوانى للسيطرة على السلطة فى دول المنطقة لتستعيد بعضاً من صورتها كجماعة مقاومة تدافع عن شعب تفترسه إسرائيل الغاشمة. لن تخسر إسرائيل فى هذه الحرب أكثر مما خسرت فى الحربيين السابقتين، وهو لم يكن كثيراً بكل حال، أما الخسارة الأكبر فستكون من نصيب السلطة الوطنية الفلسطينية ومصر إذا سمحنا لسيناريو 2008 بأن يتكرر. الصراع بين حماس وفتح فى فلسطين هو جزء من الصراع بين التيارين الوطنى والإسلامى الدائر فى كل أنحاء المنطقة. لم يعد للصراع بين حماس وفتح كثير علاقة بالصراع العربى الإسرائيلى اللهم إلا علاقة الظاهرة بسببها الأصلى البعيد، أى العلاقة بين نشوء التيارات السياسية فى فلسطين والصراع مع إسرائيل. لقد بعدت النشأة كثيراً، وباتت تفصلنا عنها سنوات طويلة وأحداث كثيرة، حتى أصبح الصراع العربى الإسرائيلى مجرد خلفية للصراع الحالى بين التيارات السياسية الفلسطينية، فلا «فتح» حررت فلسطين بالمفاوضات، ولا «حماس» حررتها بالمقاومة. لا يوجد لدى حماس ما يبرر لها ابتزاز أنصار نهج المفاوضات سوى الضحايا الذين يسقطون فى هذا الصراع، كما لو كانت حماس قد أخذت الفلسطينيين فى غزة رهينة لتوظفهم فى صراعاتها الإقليمية الأوسع نطاقاً. سياسة حماس لم تمنح الشعب الفلسطينى الحرية ولم تحمِ حقه فى الحياة، ولا يمكن لسياسة كهذه أن تكون أخلاقية. معارك حماس ضد إسرائيل تجرى على خلفية الحق التاريخى للشعب الفلسطينى فى وطن ودولة مستقلة، لكن المحصلة الفعلية لهذه المعارك لم تفد الفلسطينيين بما قيمته قرش واحد بقدر ما أفادت حماس فى صراعها مع السلطة الفلسطينية، وبقدر ما أفادت الإخوان فى صراعهم ضد تيار الوطنية المصرية. قضية الشعب الفلسطينى عادلة، ودعم الفلسطينيين هو وقوف إلى الجانب الصحيح أخلاقياً وسياسياً وتاريخياً، لكن قضية حماس خاسرة، ولا يجب السماح لها بأن تحقق المكاسب على حساب الشعب الفلسطينى ومصر، وعلينا أن نطور السياسات التى تسمح بتحويل هذا التمييز بين حماس والفلسطينيين إلى ممارسة قابلة للتنفيذ. يجب لمصر ألا تخرج خاسرة من هذا الصراع كما خرج مبارك خاسراً من حرب عام 2008، كما يجب على مصر الاستعداد للمرات التالية التى سيتكرر فيها هذا السيناريو الممجوج. دعم الفلسطينيين فى غزة إلى أقصى قدر ممكن وإضعاف قبضة حماس فى القطاع إلى أقصى قدر ممكن أيضاً، هذا هو ما يجب أن يكون عليه التوجه الاستراتيجى للسياسة المصرية.