خلف المكتب، يجلس السيد أحمد عبدالجواد ليراجع حسابات وكالة البقالة الكبيرة التى يمتلكها ويديرها فى حى النحاسين بقلب القاهرة الفاطمية، حين تهل عليه «زبيدة العالمة» متبوعة بصبيتها «زنوبة»، تدخل «زبيدة» إلى داخل المحل لتشترى خزين البيت من سكر وسمن ودقيق، يعرفها السيد جيداً، ويعرف أنها لم تأت من أجل أن تشترى لوازمها فحسب، لكنها تضمر اصطياده هو كخليل وصاحب، بعد انفصالها عن صديقها تاجر البن الكبير، لا يمانع السيد فى أن يصبح الخليل الجديد، يسهّل على العالمة مهمتها فيمدها بكل ما تطلب من لوازم، وعندما تهم بدفع الحساب يرفض السيد أن يتقاضى منها أى نقود، ترحل العالمة بلوازمها تاركة السيد يفتل شاربه على المقعد وهو يمنى نفسه بقصة مثيرة يستشعر بداية فصولها، يقطع وكيله جميل الحمزاوى أحلام يقظته حين يسأله عن الكيفية التى سيسجل بها البضاعة التى لم يدفع ثمنها فى كشوف الحسابات، يأتى صوت السيد متفكهاً: «أيّد عندك.. بضاعة أتلفها الهوى». عن الجزء الأول من ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة أخرج الراحل حسن الإمام فيلمه «بين القصرين» فى عام 1962، يتتبع «محفوظ» فى ثلاثيته الروائية سيرة عائلة من الطبقة الوسطى منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، حتى بدايات العقد الخامس من القرن العشرين، عميد العائلة هو السيد أحمد عبدالجواد، الشخصية الرئيسية فى العمل الروائى، يحيا بشخصيتين، إحداهما لطيفة وظريفة وماجنة، يظهر بها خارج بيته بين أصدقائه ومعارفه، والثانية شديدة قاسية متدينة، وهى التى يظهر بها وسط أهل بيته، إيماناً منه بأن الشدة مع الأبناء والزوجة مطلوبة، إلا أن شدته لا تفلح فى منع ابنه «فهمى» من المشاركة فى ثورة 19 لينتهى الأمر باستشهاده، ولا ابنه الثانى «ياسين» الذى ينحرف أخلاقياً، كذلك «كمال»، الأصغر، الذى يختار لنفسه فكراً خاصاً به يتعارض مع كل ما يؤمن به الأب، غير أن فصول الحكاية تستمر لتتداخل مع أحداث مصر السياسية بداية من انتهاء الحرب العالمية الأولى، مروراً بنفى سعد زغلول واندلاع ثورة 19، ثم محاكمة قتلة السير لى ستاك، فوفاة سعد زغلول، فمظاهرات الثلاثينات، وظهور الإخوان المسلمين والحركات الشيوعية، وموت الملك فؤاد وتولى الملك فاروق الحكم، وغيرها من الأحداث الكثير. ولثلاثية نجيب محفوظ حكاية يرويها هو بنفسه فى حوار له مع الكاتب جمال الغيطانى، فيقول إنه كتبها فى عام 1957، وكانت فى البداية عبارة عن رواية واحدة طويلة باسم «بين القصرين»، وذهب بها للناشر سعيد جودة السحار بمكتبة مصر، غير أن الأخير استصعب أن يتم طبع الرواية وقد تجاوزت أوراقها الألف ورقة، عاد «محفوظ» إلى منزله وقد استبد به اليأس، غير أن يوسف السباعى، الأديب والروائى، كان قد علم بالقصة، عرض على «محفوظ» أن ينشر له روايته مسلسلة فى مجلة الثقافة الجديدة، وافق «محفوظ» بالفعل، قبل أن ينصحه أحد الأصدقاء بتقسيمها إلى ثلاثة أجزاء ليتم نشرها، وبعد إجراء تعديلات بسيطة على الرواية الأصلية، صدرت طبعتها أخيراً فى ثلاثة أجزاء بعناوين «بين القصرين»، و«قصر الشوق»، و«السكرية» وجميعها شوارع تقع فى قلب القاهرة الفاطمية حيث تدور أحداث الرواية. فى فيلم «بين القصرين» تتجلى ألحان الموسيقار الغائب الحاضر سيد درويش كأروع ما يكون، خاصة تلك التى تصاحب مشاهد ثورة 19، وتلك التى تؤديها الفنانة مها صبرى، يحصل يحيى شاهين على دور عمره، ويتألق عبدالمنعم إبراهيم وصلاح قابيل وزوزو نبيل ونعمت مختار وميمى شكيب فى أدوارهم، على أن أبرز ما يتبقى من الفيلم هو هتاف «يحيا الهلال مع الصليب»، الذى قيل إنه كان شعار المسلمين والمسيحيين من أبناء مصر أثناء ثورة 19 للتدليل على وحدتهم وترابطهم فى مواجهة الأعداء.