يتابع الملايين من البشر بطولة كأس العالم لكرة القدم المنظمة بالبرازيل حاليًا بشغف وترقب وبمتعة كبيرة، ولا شك أن حدثاً كالمونديال، الذي ينتظره العالم برمته على أحر من الجمر ويتابعه محبي الكرة، قد يظهر على أنه حدث بعيد كل البعد عن العلم والتكنولوجيا ولا مجال فيه لهذه الموضوعات الجافة والمتخصصة وصعبة الهضم، فهل للعلوم والتكنولوجيا نصيب من هذه الاحتفالية الكبرى في الوقت الذي تسلط فيه الأضواء على اللعبة الأشهر في العالم؟ وصفت صحيفة «ديلى ميل» بطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 2014 ب «بطولة التكنولوجيا الفائقة»؛ لأنها أكثر بطولة شهدت استخداماً للأدوات والمعدات الرياضية التي تعمل بواسطة التكنولوجيا الفائقة؛ حيث ظهرت خلال البطولة كرات القدم الذكية والقمصان المبردة لحماية اللاعبين، والتي تحافظ على درجة حرارتهم، بالإضافة إلى الأحذية التي تزيد من سرعة اللاعبين. كما ظهر لأول مرة الرذاذ الذي يتلاشى مباشرة ويُستخدم في تحديد الركلات الحرة، وقالت الصحيفة: إن التسمية الأفضل للبطولة بعد كل تلك الابتكارات هي «كأس العالم الرقمية». وبالطبع نعلم أن أحدث تكنولوجيا الاتصالات والتصوير والبث الرقمي وغيرها من الوسائل الحديثة تستخدم في المونديال، ولكن في الحقيقة ظهر الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا جليًا في حفل افتتاح بطولة كأس العالم بالبرازيل حيث أدى رجل مصاب بشلل نصفي الركلة الأولى الرمزية باستخدام هيكل خارجي آلي، يتم التحكم فيه عن طريق الدماغ. وصاحب الركلة، التي شهدها إستاد كورينثيانز ارينا بمدينة ساو باولو، شاب يدعى جوليانو بينتو (29 عامًا)، وهو مصاب بشلل تام في نصفه الأسفل. وتمكّن بينتو من خلال الهيكل الخارجي الذي كان يرتديه من ركل الكرة لمسافة قصيرة فوق بساط خاص. وصمم الهيكل فريق يضم أكثر من 150 باحثًا، بقيادة عالم الأعصاب البرازيلي، ميجويل نيكوليليس الأستاذ بجامعة ديوك بالولايات المتحدة، وهو أحد رواد مجال وسائط العقل الآلي. وهو أول من كشف في عام 2003م أن القرود يمكنها التحكم في حركة أذرع افتراضية باستخدام نشاط الدماغ فقط. ويعمل بينتو ضمن فريق في مشروع باسم "المشي مجددا". وقال الفريق إن عرض كأس العالم سيكون "مجرد بداية لمستقبل يتمكن فيه المصابون بالشلل من التخلي عن المقعد المتحرك والمشي مجددا". ويعمل الهيكل الآلي عن طريق خوذة تُثبت في رأس المريض لالتقاط إشارات الدماغ وتنقلها لكمبيوتر في حقيبة ظهر مثبتة في الهيكل، ثم يفك الكمبيوتر الإشارات وينقلها إلى الأرجل. وتعمل البدلة الآلية بالطاقة الهيدروليكية، وبها بطارية في حقيبة الظهر تسمح باستخدامها لنحو ساعتين. لكن بعض المراقبين قالوا إن هذا الحدث التاريخي لم يلق الاهتمام اللائق خلال حفل الافتتاح، وأن بعض شبكات التليفزيون لم تنقل الحدث، كما ألقى بعض المعلقين اللوم على منظمي الحفل، لتهميشهم هذه اللحظة العلمية التاريخية لصالح العروض الفنية. أما عن الكرة الشهيرة المستخدمة في كأس العالم لهذا العام المعروفة باسم "البرازوكا"، والتي تعني باللغة المحلية "نمط الحياة البرازيلي"، فهي كرة كأس العالم الثانية عشرة التي تصنعها أديداس، وهي مصنوعة من الجلد المدمل، وتتمتع بخشونة يقول خبراء الديناميكا الهوائية أنها ستمنح اللاعبين فرصة للتعامل مع الكرة بصورة أكثر واقعية وتفادي أي خداع. وقد قال الباحث الياباني تاكشي اساي الأستاذ في العلوم الرياضية إن تصميم الكرة له علاقة بالنينجا اليابانية ,ان تصميمها جاء على شكل نجمة كان يستخدمها مقاتلو النينجا. وأكد أن الغطاء الخارجي للكرة الرسمية يتكون من ست قطع بدلا من ثماني كما كان في الكرة الرسمية "جابولاني" والتي اشتكى منها اللاعبون خلال كأس العالم 2010م في جنوب أفريقيا، وقالوا إنها تتصرف بطريقة غريبة. ورغم تقليص عدد قطع الغطاء الخارجي أصبحت هذه القطع أطول مما جعل المدى الناتج عن سرعة الكرة أوسع والمناطق التي تربط الست قطع ببعضها البعض أعمق وهو ما سيضيف احتكاكا للكرة. وتعاون اساي مع أستاذ في الفيزياء بجامعة لينشبرج بالولايات المتحدة في دراسة انسيابية الكرة الجديدة منذ ظهورها في ديسمبر الماضي، وتوصل الاثنان إلى أن طول المناطق التي تربط الست قطع ببعضها أطول بنسبة 68 في المئة من نظيرتها في "جابولاني" وهو ما سيزيد مقاومة الهواء التي تجعل الكرة تطير بشكل أكثر دقة عند السرعات التي يتم رؤيتها عادة في كأس العالم. وسيشهد نهائي البطولة في 13 يوليو/تموز تغيير لون الكرة ليعكس لون الكأس الأخضر والذهبي، لكن حتى ذلك الوقت، ستظل الجماهير في انتظار أن تقلل الابتكارات الأحدث في هندسة كرة القدم من وجود مشاكل بالكرة. وحائط الصد لم يعد مشكلة في كأس العالم بالبرازيل، فمن خلال امتلاكهم لعبوة من "الرذاذ السري" يقوم الحكام برسم دائرة حول مكان وضع الكرة في الضربات الحرة القريبة من خط الجزاء، ورسم خط أمام حائط الصد للوقوف خلفه على بعد 10 ياردات. وتختفي هذه المادة بعد رشها بدقيقة واحدة وسيساعد هذا في إبعاد اللاعبين خلال الضربات المباشرة، ويمنح الفريق المهاجم في المقابل فرصة أفضل لاستغلال الركلة الثابتة. وسيساعد استخدام الرذاذ في إبعاد اللاعبين إلى الخلف في الضربات المباشرة. وسوف تساعد التكنولوجيات الحديثة الحكام أثناء المباريات، حيث سيتم اللجوء لتكنولوجيا ستساعد الحكام في اتخاذ القرار المناسب فيما يتعلق بعبور الكرة لخط المرمى، وإحراز الأهداف. وتم تصميم هذا النظام من طرف شركة ألمانية ويعمل عن طريق 14 كاميرا عالية السرعة (500 صورة في الثانية الواحدة)، 7 كاميرات لكل مرمى، بهدف تصوير ثلاثي الأبعاد للكرة فور اقترابها من خط المرمى. وفي حالة تخطي الكرة لخط المرمى، تقوم وحدة للمعالجة المركزية بإرسال إشارة بصرية لساعة الحكم. كما انه سيرافق هذه الإشارة، اهتزاز ميكانيكي للساعة. وقد تم تجربة النظام في عدة وضعيات وظروف واقعية خلال كأس العالم للأندية لعامي 2012 و2013 وكاس الكونفدراليات لعام 2013، بالإضافة لعدة اختبارات في 12 ملعبًا بالبرازيل والتي ستقام عليها المباريات. وتؤكد الفيفا في هذا الصدد أن قرار الحكم يظل الكلمة الفصل بغض النظر عن المعلومات التي تحددها هذه التكنولوجيا. ومن المعروف أن لعب كرة القدم وتناول المنشطات لا يجتمعان سويًا، لكن في البطولات العالمية المهمة، مثل كأس العالم، يضطر اللاعبون إلى بذل أقصى ما باستطاعتهم للظهور والتألق في المباريات، فيلجأ بعضهم إلى تناول المنشطات. لذلك فرض الاتحاد الدولي لكرة القدم على جميع لاعبي المنتخبات المشاركة في نهائيات كأس العالم إجراء فحص خاص لكشف المنشطات قبل انطلاق المونديال، أما أثناء المباريات فسيختار بالقرعة لاعبين اثنين من كل منتخب لإخضاعهما للفحص. ومع ذلك فمن المستبعد أن يشهد مونديال البرازيل فضائح تناول المنشطات على الرغم من سحب الترخيص من المختبر الحكومي البرازيلي الوحيد المختص في إجراء مثل هذه الفحوصات وهو المركز البرازيلي لفحص المنشطات الذي كان مختبرا في الجامعة الحكومية في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية وفقد الترخيص لكون معدات المختبر التقنية لا تلبي شروط المنظمة الدولية لمكافحة المنشطات. ولهذا سيتم نقل جميع عينات الاختبار إلى سويسرا لإجراء الفحوصات اللازمة عليها. والاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" هو المسؤول حاليا عن إجراء الفحوصات اللازمة للمنشطات، وسيتحمل جميع نفقات إجرائها وسيتعهد بإرسال النتائج خلال 48 ساعة. بدأ "الفيفا" بإجراء فحوصات كشف المنشطات في عام 1996. ومنذ ذلك العهد ولغاية اليوم لم يعثر على أي لاعب خالف التعليمات وتناول المنشطات في البطولات الدولية الكبيرة، ما يدل على نجاح خطة "الفيفا" في فرض هذا الفحص الإجباري. لكن أغلب حالات المنشطات للاعبي كرة القدم، التي تم الكشف عنها حتى الآن، تعود للاعبين في البطولات المحلية. أما غالبية المنشطات المستخدمة فلا ترتبط مباشرة بلعبة كرة القدم، كمنشطات تساعد على رفع اللياقة أو تخفيف الوزن. أما على الصعيد الدولي، فأغلب اللاعبين المحترفين يعرفون مخاطر العقاقير المنشطة. وفيما إذا ثبت أن أحد اللاعبين تناول المنشطات، فستتم معاقبته وفقا لنوعية وكمية المنشطات التي تناولها. وقد تصل عقوبة اللاعب إلى الإيقاف عن اللعب لمدة عامين، أما عقوبة المنتخبات فقد تصل إلى الإيقاف الكامل عن اللعب في البطولة. نظرة "الفيفا" واضحة في هذا الأمر، ويبني "الفيفا" كل قراراته المتعلقة ببرنامجه ضد المنشطات على خصوصيات اللعبة والحقائق العلمية وتحاليل إحصائيات المنشطات الثابتة صلاحيتها. وتستند مسؤولية "الفيفا" في مكافحة المنشطات إلى نُظم مراقبة المنشطات وعملية جمع المعطيات المستمرة ودعم البحث العلمي، إذ يُعد "الفيفا" شريكاً موثوقاً به من شركاء الوكالة الدولية لمكافحة المنشطات لحماية صحة الرياضيين وروح التنافس النظيف. وبالنظر لعدد اللاعبين ومعدل حالات التعاطي، فإن الاختبارات الشخصية لا تُعتبر فعالة أو ناجعة في مجال كرة القدم. وفي المقابل، أثبتت الاختبارات العشوائية على عناصر فريق معين دون سابق إنذار أنها ذات تأثير رادع في هذا الباب. أما عن تميمة المونديال وهي لحيوان المدرع الذي ينتمي لشرق البرازيل فقد أكد العلماء أنه يواجه خطر الانقراض بسبب الصيد والتعدي على أماكن وجوده. ولقد اختاره "الفيفا" ليكون تميمة نهائيات 2014 في البرازيل؛ حيث يدافع الحيوان عن نفسه بالتقوقع داخل كرة وهو ما منحه جاذبية خاصة كانت وراء اختياره كرمز لنهائيات كأس العالم. لكن هذه الطريقة في الدفاع تفشل في مواجهة هجوم الصيادين من البشر القادرين على التقاط الحيوان. وهناك مخاوف أيضا من أن تتسبب شعبية كأس العالم في أن يألف الناس هذا الكائن ليتخذوا منه حيوانًا أليفًا ويضعوا بالتالي مزيدًا من الضغوط على الأعداد القليلة المتبقية منه. وحسب القائمة الحمراء للأنواع التي تواجه خطر الانقراض فإنه يعتقد أن السلالات تقلصت أعدادها بأكثر من الثلث خلال آخر خمس عشرة سنة بسبب التعدي على أكثر من 50 بالمئة من الأماكن التي اعتادت أن تسكنها هذه الحيوانات. وأظهر دليل جديد أن المخاطر التي تتعرض لها الحيوانات التي يصل طولها إلى نحو 50 سنتيمترا في ازدياد وأنها ستوضع خلال الأشهر المقبلة ضمن فئة الحيوانات الأكثر مواجهة للتهديدات. وأخيرًا، هل يتنبأ العلم بالفائز بكأس العالم لهذا العام؟ في محاولة للإجابة عن هذا السؤال الصعب قام علماء بعمل مائة ألف محاكاة لبطولة كأس العالم لكرة القدم، حتى توصلوا إلى نتيجة مفادها أن البرازيل المنظمة ستحرز اللقب. وقامت مجموعة العلماء التي يقودها دانييل ميمرت من معهد البحث المعرفي والأداء الرياضي بمدينة كولن الألمانية، بتطوير تقنية لعمل محاكاة لبطولات كاملة، بالتنسيق مع عالم الرياضيات فابيان فوندرليش. وتجمع التقنية بين تصنيف "الفيفا" وحصص الرهانات الحالية من أجل تقديم التوقع. ويقيس تصنيف "الفيفا" أداء الفرق في الماضي، فيما يتم توجيه حصص الرهانات إلى الأداء المستقبلي، مع وضع عوامل أخرى في الاعتبار مثل أفضلية المضيف والمعلومات الحالية عن الفرق كإصابات اللاعبين. وعلى سبيل المثال فإن المنتخب الإسباني المتصدر للتصنيف العالمي تتضاعف حصص رهاناته تقريبا مقارنة بالبرازيل. وتوصلت طريقة الحساب الحديثة إلى نتيجة أن البرازيليين سيفوزون بكأس العالم على أرضهم، باحتمالية تبلغ 20.4 بالمئة، بالتغلب في النهائي على الأرجنتين. أما المرشحون الآخرون الأقرب للقب بحسب هذا النموذج فهم الأرجنتين (14.7%) وإسبانيا (12.6%) وألمانيا (12.3%). ومع بداية مباريات كاس العالم، وقبل اشتعال المنافسة فوجئنا بالهزيمة الثقيلة للمنتخب الإسباني، المرشح الثالث للحصول على البطولة حسب النماذج الرياضية المعقدة، حيث ثأرت هولندا من هزيمتها في نهائي كأس العالم لكرة القدم 2010 أمام إسبانيا وتغلبت عليها في أولى مباريات المجموعة الثانية في البطولة المقامة حاليا في البرازيل بعد أن تقدم الفريق الهولندي بخمسة أهداف مقابل هدف واحد للفريق الإسباني! ونصب المنتخب الهولندي السيرك لنظيره الإسباني، وقلب تأخره بهدف نظيف إلى فوز كاسح وتاريخي في أولى مباريات الفريقين. فهل تصح هذه التنبؤات؟ أم كذب المنجمون ولو صدقت طرقهم البحثية والعلمية والتكنولوجية؟! هذا ما ستجيب عنه أقدام اللاعبين في هذه البطولة الشيقة التي يتابعها العالم أجمع. * أستاذ التقنية الحيوية المساعد كلية العلوم والآداب ببلجرشي جامعة الباحة-المملكة العربية السعودية.متخصص في الوراثة الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية-قسم النبات، كلية العلوم، جامعة القاهرة.