لم أكن أعلم، وأنا طفلة صغيرة عمرها سبعة أعوام أقلب فى صفحات «روزاليوسف» مثل أبى، أننى أمسك بيدى الصغيرة أطراف بداية حلمى ومشوارى فى هذه المهنة.. بل لم أكن أعلم أيضاً أن بين يدىّ أطراف بداية واحدة من أعظم القصص الإنسانية فى الحياة.. قصتى مع عبدالله كمال. فى يونيو 2005 طلبت من أساتذتى بكلية الإعلام أن يعطونى خطاباً للتدريب فى مجلة روزاليوسف، المجلة التى عشقت ليبراليتها منذ صغرى والتحقت بقسم الصحافة لأحقق حلمى بالعمل فيها. رفض رئيس قسم الصحافة آنذاك أن يمنحنى توقيعه الذى لن يكلفه شيئاً، مجرد جرة قلم كما يقولون، بحجة أن ليس لدى واسطة. ومن أين آتى بالواسطة وأنا عائلتى كلها تعمل فى مجالات لا علاقة لها بالإعلام؟! رغبتى فى العمل ب«روزاليوسف» كانت أقوى من جرّة القلم التى بخل علىّ بها أستاذ الجامعة. اتصلت بالتليفون الأرضى للمجلة وطلبت أن أتحدث إلى الأستاذ عبدالله كمال، نائب رئيس التحرير، الذى التقطت اسمه من على الترويسة بالصدفة، أو هكذا صورها لى القدر، صورها أنها صدفة. ردّ علىّ الأستاذ عبدالله فقلت له: «اسمى ديانا الضبع، طالبة فى كلية الإعلام، حلمى أن أتدرب فى روزاليوسف، لكن ليس لدىّ واسطة، وقالوا لى إننى لن أجد فرصة دون واسطة». كنت قليلة الخبرة، أتحسس طريقى، لا أعرف ما الخطأ وما الصواب الذى يجب أن يقال فى مثل هذا الموقف. طمأنت نفسى بأننى لو جانبنى الصواب فيما أقول قد يعذرنى لصغر سنى. حسم حيرتى بضحكة ألقت فى قلبى أول نقطة أمل وطلب منى أن أحضر أوراقى. أغلقت سماعة التليفون وقلبى يقفز من السعادة التى أتذكرها وكأنها أمس لكن يصعب علىّ أن أستحضرها الآن من بئر ألم الفراق العميق. فى أول لقاء سألنى عن تفضيلاتى فى العمل الصحفى فأجبت إجابة علمت فيما بعد أنها فاترة ومكررة: «أنا أكتب شعر وقصة قصيرة وأحب مشاهدة أفلام السينما وأنقدها.. لكننى لا أحب السياسة»، فإذ به يكلفنى، أنا البنت الصغيرة التى تقول له لا أحب السياسة، بتغطية محاضرة كوندليزا رايس بالجامعة الأمريكية فى اليوم التالى. قاتلت لأحصل على تصريح حضور المحاضرة، وحالفنى حظ المبتدئين لكننى استغرقت فى ترجمتها وصياغتها يوماً كاملاً ظننت أنه سيعلن فشلى فى نهايته لتأخرى فى التسليم، إلا أننى فوجئت به يقول لى: «اعتبرى نفسك معانا من النهارده». ومنذ ذلك اليوم وأنا ألقى رعاية صحفية من أستاذ قرر بناء مشروع تلميذ. كان يراجع موضوعاتى بنفسه ويعيد صياغة بعضها بيده. كان يطلق علينا، نحن تلاميذه، الاستثمار الحقيقى. وبالفعل ذهبت المناصب وجاءت وبقى له الاستثمار الحقيقى. بعد أشهر قليلة تولى رئاسة تحرير روزاليوسف. وبعد أقل من خمس سنوات، كان الأستاذ عبدالله كمال خلالها هو مرشدى ومعلمى وأبى الروحى، اختارنى لأترأس قسم التحقيقات فى مجلة روزاليوسف. وضع اسمى على ترويسة المجلة وأنا مازلت فى الخامسة والعشرين من عمرى متحدياً كل الأعراف البالية ومتتبعاً، كعادته، أساليب الإدارة التى أجمعت عليها دول العالم المتقدم والتى لا تعرف فى تولية المناصب جنساً أو ديناً أو سناً. احتمل الكثير من الهجوم من أجل أن يعطينا نحن الشباب فرصاً تستثمر طاقاتنا لصالح «روزا». قضينا فى روزاليوسف أجمل أيام العمر. كانت سهرة الخميس، يوم تقفيل المجلة، هى الأمتع، حيث كنت مكلفة ب«شفت» السهرة فى هذا اليوم الذى يهرب منه معظم الزملاء. ورغم أننى كنت أقضى ليلة مرهقة وأنا أهرع بين مبنيَى الإدارة والتنفيذ ذهاباً وإياباً فى شارع قصر العينى حتى أنتهى فى الثامنة من صباح اليوم التالى جثة هامدة على الكنبة فى الدور الرابع فى مبنى التنفيذ، فإنها كانت أجمل الأوقات. كانت هذه أكبر فرصة لى لأنهل من خبرة الأستاذ عبدالله كمال وخبرة الأستاذ محمد هانى مدير التحرير العام. كل تعديل يجريانه على البروفات ويكلفاننى بتنفيذه كان درساً جديداً فى مهنة الصحافة. لم أتعلم فقط على المستوى المهنى لكننى كنت أتعلم الكثير على المستوى الإنسانى من علاقة الاحترام المتبادل بينهما. العملاق محمد هانى يتعامل مع رئيسه العلامة عبدالله كمال بمنتهى المهنية والحب والتواضع فى مهنة يظن فيها كل من كتب مقالاً أو زاد متابعوه على تويتر أنه مبدع متفرد يستحق اعتلاء أعلى المناصب بمفرده. بقدر السعادة التى منحنى إياها القدر بين جدران روزاليوسف بقدر الأسى الذى ملأ قلبى الذى احترق على أستاذى مرتين.. مرة بعد جحود كثير من التلاميذ والزملاء بعد يناير 2011، ومرة بعد أن حرمنى منه القدر إلى الأبد فى لحظة كنت أظننى أتعافى فيها من الضربة الأولى.. وكأن القدر يمنحنا السعادة على سبيل السلف ويسترد حقه بقسوة وفى لحظة غدر مفاجئة. انطلقت مظاهرات يناير التى أطلق عليها عبدالله كمال فعلاً ثورياً؛ ذلك الوصف الذى استعاره منه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل بعد عامين. اندلعت «25 يناير» فتكشّفت الوجوه ومورست الخيانة تحت غطاء الوطنية. رأينا أكثر الناس تملقاً هم أول المنقلبين عليه. لكن عبدالله كمال كان مديراً ذكياً يفهم فى معادن الناس ويسبر أغوارهم من أول لقاء.. فعلاً كان شديد الموهبة فى هذا المنحى. كان يكره التملق ويحتقر الرياء حتى إن زايد شخص فى كلمات الإطراء له كان يوقفه بحدة شديدة فى رسالة واضحة لجميع الحضور. لذلك عندما هاج عمال روزاليوسف ظانين أن عبدالله كمال هو سبب ضعف رواتبهم ودخولهم، والعكس كان صحيحاً، وأخذوا يداهمون مكاتب الصحفيين مثل التتار، كان الأستاذ عبدالله يضطر إلى الكتابة من على المقهى لكنه تمكّن من السيطرة الكاملة على كل حرف ينشر فى روزاليوسف الجريدة والمجلة، لأن الغالبية العظمى ممن أولاهم ثقته كانوا الأخلص له ولم يتلونوا أو يتقلبوا حتى آخر دقيقة له فى رئاسة التحرير. احترق قلبى عندما شاهدت لافتة معلقة على باب المجلة تطالب بوقف نشر مقالاته. عُلقت اللافتة على باب المبنى الذى كان ينتفض وقوفاً وتبجيلاً له فى ذهابه وإيابه. ووسط تلاميذه الخائفين من الحالة التتارية التى انتشرت فى البلد، لم أتمالك نفسى من تسلق سلم الخدمات المتحرك وإسقاط اللافتة. صرخت فى وجه من علقوها صراخاً به مزيج من الغضب والألم والفزع من الجحود، وهددتهم وأنا فى الحقيقة لا أملك شيئاً فى يدى. حاولوا منعى بالقوة لكننى لملمت اللافتة ودسستها فى حقيبتى وتحديتهم جميعاً. هاجموا مكتبى، لكننى صممت على موقفى بقوة كان مصدرها الوحيد إيمانى بعبدالله كمال. صدرت قرارات تغيير رؤساء تحرير الصحف القومية وترك منصبه كما كان متوقعاً. كنت أظن أن دورى قد جاء لأحمل أنا همّ أستاذى فى المحنة، إلا أننى فوجئت به رجلاً قوياً كما اعتدناه.. لم يتغير فيه شىء، يستيقظ كل يوم مبكراً، ينزل إلى المقهى ويكتب ويبحث ويلهث وراء المعلومات والجديد فى عالم التكنولوجيا. على مدار ثلاثة أعوام لم يجلس يوماً واحداً فى بيته. لم ينزل متأخراً ولا مرة. ظل كما هو بنفس نشاطه وحماسه ودأبه. ظل الأستاذ مصدر القوة لنا جميعاً.. كان يرسل لى إيميلات يومية طالباً منى أن أقرأ هذا المقال لهذا الكاتب العالمى أو ذاك العربى أو أن أطلع على عنوان هام فى ال«واشنطن بوست» أو ال«نيو يورك تايمز».. كان يشدد فى نصيحته «ماينفعش ماتقريش ده.. وخليها عادة عندك، كل يوم لازم تطّلعى على مقال فلان وتشوفى كذا». أخذ بيدى وأرشدنى حتى أصبحت مديرة التطوير والتخطيط بشبكة قنوات «سى بى سى». قال لى: «أشعر أنك ستصبحين مديرة قناة قريباً».. وبعد أشهر قليلة من نبوءته كلفت بأعمال إدارة قناة «سى بى سى 2» وأنا ما زلت فى التاسعة والعشرين من عمرى، بفضل الأستاذ محمد هانى، مدير الشبكة، وبفضل عبدالله كمال الذى حققت توقعاته المبكرة منذ أن قال لى وأنا طالبة بالجامعة بثقة: «اعتبرى نفسك معانا من النهارده». كانت سعادتى منقطعة النظير عندما أخبرنى ببدء مشروعه «دوت مصر». شعرت أن ميزان الدنيا بدأ يعتدل، لكن القدر لعب معى نفس اللعبة، فالسعادة انقلبت إلى سكيب من الحزن الموجع عندما فارقنا بغتة.. توقف قلبه من شدة الإرهاق، كان لا ينام من أجل إنجاح مشروعه رغم تحذير السير مجدى يعقوب له قبل شهر واحد من رحيله بأن عضلة قلبه لا تعمل بكفاءة عالية.. كان إنجاح مشروعه الجديد بالنسبة له مسألة حياة أو موت. وقفت أمام قبره لا حيلة لى أمام الموت، يعتصرنى ألم يتشبث بأحشائى. أتذكّر عندما كان يشتكى ممن أولوه ظهورهم فكنت أقول له: «معلش.. المسألة مسألة وقت»، حتى قال لى فى آخر مرة: «همّ عايزينّى أموت؟».. لكن عزاءه شهد بكاء صادقا ومئات القصص التى يحكيها تلاميذه وزملاؤه وأساتذته عنه، الذين عملوا معه ثلاثة أشهر يقولون: «يا ريتنا ما عرفناه عشان ما نتألمش الألم ده»، والذين عملوا معه منذ سنوات يحكون لوالدته المكلومة عشرات القصص والمواقف الإنسانية لهم معه.. بعد أن تلقينا عزاءك يا أستاذ عبدالله أستطيع أن أجيبك بثقة: «لن تموت أبداً».