لقد غزت الأغذية المحورة وراثيا أو "أغذية فرانكنشتاين" كما وصمها البعض، مأكلك ومشربك، ولقد أصبحت شاغلا لوسائل الأعلام العالمية مؤخرًا بسبب الجدل الدائر حولها؛ حيث توارت الحقيقة وراء أعاصير الزيف الدعائي لكبرى شركات التقنيات الحيوية، ووراء جدر المكاسب المادية الهائلة التي يبنيها من ماتت ضمائرهم، ولكن هذا الإفك قد بدأ يتهاوى تحت ركام الحقائق العلمية، وتحت وابل المناظرات التي تقوم بها جماعات علمية منظمة للدفاع عن البيئة وعن حقوق الإنسان. بدأت الثورة ضد التلاعب والعبث بالجينات في اجتياح الولاياتالمتحدةالأمريكية والتي تعتبر بحق عقر دار الهندسة الوراثية ولقد أشعل هذه الثورة عدم وجود إجابات محددة قاطعة بخصوص الأمان الحيوي لمثل هذه المنتجات وعدم تحديد الآثار الجانبية التي من الممكن أن تسببها هذه الأطعمة المحورة وراثيًا. ودفعت معارضة الرأي العام وجماعات المستهلكين في الدول الغنية للمواد المعدلة وراثيًا كبرى الدول المنتجة لها مثل الولاياتالمتحدة وكندا وأستراليا للدخول في صراع مع معارضيها، وقامت قيامة الرأي العام بسبب "أغذية فرانكنشتاين" التي ارتبط وصفها بالمنتجات الغذائية المحورة وراثيًا، وذلك تشبها بالرواية الأسطورية التي تحكى عن عالم صنع وحشا أسماه "فرانكنشتاين" ولم يستطع السيطرة عليه، وقتل هذا الوحش صانعه لأنه لم يستطع تنفيذ طلبه بتغيير صورته الدميمة. توجت هذه المعارضة مؤخرًا يوم السبت الماضي، حيث شارك ناشطون من 673 مدينة حول العالم في مسيرة عالمية بشكل متزامن بالتشارك مع الناشطين الأميركيين المنظمين لهذه المسيرة في العديد من الولايات الأميركية ضد شركة «مونسانتو» العملاقة المسيطرة على البذور المعدلة جينياً والتي تفرض محاصيلها على العالم. وانطلقت الحملة على إثر إقرار الكونجرس الأميركي لما يسمى «قانون حماية مونسانتو» وهو القانون الذي يحظر على المحاكم إدانة شركة «مونسانتو» وسحب البذور المعدلة وراثيًا من السوق. وأشتعل الجدل من جديد بعد تهديدات شركة «مونسانتو» بإقامة دعوى قضائية ضد ولاية فيرمونت الأميركية بسبب سعيها لفرض ملصق المنتجات المصنعة من الأغذية المعدلة جينياً، ووضع العلامات أو ملصق الكائنات المعدلة وراثيًا (جينياً). ويتلخص هذا التهديد بمقاضاة ولاية فيرمونت لدى الحكومة الفدرالية إذا تم تمرير هذا القانون. وللأسف، فقد يخضع المسؤولون الحكوميون المنتخبون في فيرمونت للاستسلام نتيجةً للتهديد والتخويف اللذين تمارسهما «مونسانتو»، ضد الناشطين والمسؤولين الحكوميين المعنيين لردع الولاية عن تمرير مشروع القانون المعروف باسم «الحق في معرفة الأغذية المهندسة وراثيا»، وهو المشروع الذي يفرض وجوب وضع العلامات ليس فقط على المنتجات المعدلة وراثياً بل أيضا على تلك التي تم إنشاؤها جزئيا باستخدام المكونات المعدلة وراثيا وكذلك منع هذه الشركات من استخدام تسميات ترويجية مثل «طبيعية»، «أنبتت بشكل طبيعي»، وأخرى مماثلة. وازداد الجدل في الآونة الأخيرة حول الأغذية المعدلة وراثياً، واختلفت الآراء بشدة ما بين معارض ومؤيد. ومن المعروف أن الهندسة الوراثية اقتحمت حياة البشر وفرضت نفسها على هذه الحياة. وتعد الهندسة الوراثية بالفعل من أهم التقنيات المنوط بها إنتاج كميات وفيرة من الأغذية لإشباع مليارات الأفواه الجائعة المتزايدة في الدول النامية، وهي قد تغنى عن استخدام المبيدات وتقلل من استخدام الأسمدة، وتجعل المنتجات أطول عمرا لتساهم في سهولة تداولها وجودة تخزينها. وتتميز تقنية التحوير الوراثي بدقتها الشديدة في تحديد ونقل الجينات من كائن لأخر، وتختلف في هذا عن طرق التربية التقليدية التي تعتمد على نقل وتوليف الأطقم الوراثية بأكملها مما يؤدى إلى احتمالية نقل الصفات المرغوبة وغير المرغوبة. وأنتجت الهندسة الوراثية العديد من الأصناف الغذائية ذات صفات محسنة ومرغوبة وتدخلت في تعديل نمو وأحجام وألوان الكثير من النباتات والحيوانات. والأطعمة المحورة وراثيا تتواجد الآن بشكل دائم في معظم المحلات التجارية بشتى بقاع العالم، وفى غضون بضعة سنوات يُحتمل أَنْ يَكون في حكم المستحيل أَنْ تجد طعاما طبيعيا لم تدركه بعض آثار تقنيات الهندسة الوراثية. ولكن مع كل هذا الانتشار، فلم يتاح لأهم منتج من هذه التقنية وهو "الأرز الذهبي" التواجد في الأسواق حتى الآن، والذي تطلب إنتاجه أموالاً طائلة، فقد حصل العلماء على التمويل الأولي لإنتاجه من مؤسسة روكفيللير في عام 1982، ويتم دعمهم إلى الآن بالمبالغ المطلوبة، على امتداد أكثر من 30 عاماً لوجود الكثير من المعوقات القانونية والتنظيمية اللازمة لتداول هذا الأرز في الأسواق، مما يطرح الكثير من علامات الاستفهام. ولقد تحولت الهندسة الوراثية في المجال الزراعي بالفعل إلى معركة دولية كبرى، فلقد سارعت أعظم الشركات الدولية الاحتكارية متعددة الجنسيات للأخذ بأسبابها واستقطاب علمائها من الجامعات ومراكز البحوث العلمية ولقد جمعت هذه الشركات والمؤسسات العملاقة بذور وأنسجة النباتات واحتفظت بها في بنوك خاصة كثروة مستقبلية، وعند إجراء أي تعديل وراثي تحتفظ لنفسها بحقوق امتلاك هذه الكائنات تحت ما يسمى "حقوق الملكية الفكرية" ويعد نوعا جديدا من القرصنة الغابرة ومن الممكن أن نسميها "القرصنة الجينية". ولقد قامت هذه الشركات بزراعة ملايين الهكتارات بهذه الحاصلات المهندسة وراثيا في الصين وفي معظم دول العالم الثالث كالهند والأرجنتين، وبحسب الهيئة الدولية لتطبيقات التكنولوجيا الحيوية الزراعية فإن المساحة التراكمية للمحاصيل المهندسة وراثيًا وصلت إلى 1.5 مليار هكتار، وأنها تزايدت بأكثر من 100 ضعف، لتصل إلى أكثر من 175 مليون هكتار في عام 2013، ما يجعل منها التكنولوجيا الأكثر انتشارا في التاريخ الحديث. وأن هناك 27 دولة اعتمدت زراعة محاصيل تكنولوجيا الحيوية خلال عام 2013 منهم 19 دولة نامية و8 دول صناعية واحتلت المساحة المنزرعة من هذه المحاصيل 47,1 مليون هكتار بما يوازي 27% من مساحة الأرض الزراعية، وقامت الدول النامية بزراعة مساحة أكبر منها؛ حيث زرعت ما يزيد عن 54% من المحاصيل المنزرعة إجماليا خلال عام 2013، وبلغت 90% من المساحات لصغار المزارعين ما يعادل 16,5 مليون فلاح بالدول النامية ويستهدف هؤلاء تحسين الإنتاجية من خلال التكثيف الدائم للزراعة. وتسيطر مثل هذه الشركات سيطرة كاملة على إنتاج وتوزيع السلع الغذائية على مستوى العالم، وفي كثير من الأحيان لا يذكر أن هذه السلع محورة وراثيا وإذا ذكر لا تذكر بالطبع الجينات التي تم نقلها وكيفية نقلها ومصادرها وأخطارها، مما يلقى بظلال الشك والخوف من مثل هذه المنتجات، ويعزر نظرية المؤامرة والتي تعتبر دول العالم النامي ونحن منها "حقل تجارب" لهذه المنتجات. وسوف تؤدى هذه السياسات بلا أدنى شك إلى كوارث حقيقية سوف تصيب دول العالم الثالث الفقيرة حيث إنها لا تملك التقنيات الحديثة ولا تملك بنوكا للبذور ذات الكلفة العالية والتي من الممكن أن تحمى التنوع الحيوي والاقتصادي والثروة الحيوية لمثل هذه البلدان. وعند استبدال الأصناف الوطنية بالأصناف المهندسة وراثيا فان الأخيرة سوف تعطى إنتاجا غزيرا وخصائص براقة جديدة تجذب أنظار المزارعين مثل مقاومة الآفات وعدم الحاجة للسماد مما يؤدى بالطبع إلى استبدال الأصناف المحلية بالأصناف الجديدة المحورة وراثيا. و إذا حاول المزارعون إعادة زراعة نفس المحاصيل من ناتج هذه النباتات فلن تجدي نفعا حيث أنها حورت للزراعة مرة واحدة و إذا أراد المزارعون نفس الإنتاج العالي فعليهم دائما شراء تقاوي جديدة من نفس الشركات المصنعة مع شراء أصناف محددة من الأسمدة و المبيدات وربما الميكنة الزراعية لتحقيق أعلى إنتاجية للمحصول، و لن تجد مثل هذه البذور طريقها إلى الدول النامية إلا بأغلى و افدح الأثمان مما سيفرض نوعا من التبعية السياسية و الخوف من سلاح التجويع الذي ستمارسه مثل هذه الشركات الدولية متعددة الجنسيات و متحدة الهوية. ويؤدى احتكار الدول الغنية والشركات متعددة الجنسيات لتقنيات الهندسة الوراثية لحدوث خلل اقتصادي كبير للدول الفقيرة المعتمدة اقتصاديا على أصناف زراعية معينة، مثل مدغشقر التي تنتج نبات الفانيليا والسودان التي تنتج الصمغ العربي ولقد تمكنت إحدى الشركات من إنتاج الفانيليا اصطناعيا في مزارع الأنسجة في المختبر وتمكن آخرون من تنمية الحويصلات التي تنتج العصير في ثمار البرتقال والليمون والجريب فروت لتنتج عصائر الموالح في المختبر دون الحاجة لأشجار الفاكهة. ومثل هذه الممارسات من الممكن أن تؤدى لهزات اقتصادية عنيفة للدول المعتمدة اعتمادا كليا على مثل هذه المنتجات الزراعية. ومن الأمثلة الصارخة التي تؤكد احتكار الشركات الكبرى العظمى للسلع المحورة وراثيا ما فعلته شركة «مونسانتو» والتي تعد بحق من أكبر الشركات الأمريكية العاملة في هذا المجال. فقد اشترطت هذه الشركة في عقود بيع البذور المحورة وراثيا عدم معاودة زراعة البذور المنتجة من قبل الشركة، حيث تملك هذه الشركة حقوق الملكية الفكرية لأصناف متميزة غزيرة الغلة، عالية الإنتاج، ومقاومة للأمراض بعد معالجتها وراثيا. ولما كان من الصعوبة بمكان متابعة تنفيذ مثل هذه الاتفاقات، فقد تفتق ذهن هذه الشركة على شراء حقوق الملكية الفكرية لتقنية جديدة هدفها إصابة المحاصيل بالعقم وبالتالي يستحيل زراعة مثل هذه المحاصيل مرة أخرى. ولقد دفعت هذه الشركة مليار دولار لشراء حقوق استغلال هذه التقنية لتضمن أن يأتيها المزارع صاغرا لشراء البذور بدون الحاجة إلى إجراء أي اتفاقات أو عقود. ومنذ حصول شركة «مونسانتو» على حقوق الملكية الفكرية لهذا المورث أطلقت عليه منظمة السلام الأخضر الدولية "جرين بيس" اسم "المدمر" وطالبت المعنيين في كل أنحاء العالم بتقديم الاحتجاج لإدارة الزراعة الأمريكية. ولقد قامت هذه المنظمة بعمل سيناريو يرى أن غبار الطلع الناتج من المحاصيل الحاملة للمدمر من الممكن أن يتحرك مع الريح كسحابة سامة وينتقل إلى المحاصيل الأخرى العادية والنباتات البرية ويصيبها بالعقم، مما سيقضى على الحياة نهائيا على سطح الأرض. وبالرغم من أن مثل هذا السيناريو تشوبه ثغرات علمية عديدة إلا انه أثار الرأي العام كما أثار قضية أخلاقية كبرى وهي من يتحكم في بذور الحياة؟!... ومهد الطريق لعصر جديد من الاستعمار الذي ينعته البعض بعصر "الاستعمار الجيني". وتفرض على طبيعة تخصصي العلمي الدفاع بعنف عن تقنيات الهندسة الوراثية والزراعة النسيجية التي تمثل تخصصي العلمي الدقيق، والتي كانت ومازالت شغلي الشاغل لأكثر من 25 عامًا، ولكن في النهاية لا يصح إلا الصحيح، فالحق أحق أن يتبع. والمشكلة في تقديري هو أن الشركات التي تقود تطوير هذه المنتجات في العالم أجمع، لا يهمها سوى الربح، ولها قوة كبيرة قد تؤدى إلى التدخل في مسار البحث العلمي في هذا المجال، والحجر على الاكتشافات العلمية. ووصلت قوة هذه الشركات أنها قد طالبت عن طريق علمائها بسحب مقال علمي من دورية "نيتشر" نُشر في سبتمبر 2012 أشار إلى أن الذرة المعدلة وراثياً تسببت في إصابة فئران التجارب بالأورام، وآثارت المقالة العلمية الصاعقة الكثير من الجدل حول سلامة الأغذية المعدلة وراثياً. كما أثارت مخاوف من تسلل جماعات ضغط لصالح الشركات المنتجة للأغذية المعدلة وراثياً إلى الصحافة العلمية العالمية بعد أن تعرضت للكثير من الانتقادات والتحقيقات التي استمرت عاماً، كاملاً، وخلصت في النهاية إلى أن مضمون الدراسة دون المستوى العلمي. وأعتبر الكثيرون أن سحب هذه الدراسة جاء نتيجة لتخوف الشركات المنتجة للأغذية المحورة وراثياً من فقد مكاسبها الكبيرة، وآثار آخرون مخاوف من تسلل جماعات ضغط لصالح المنتجات المعدلة وراثياً إلى الصحافة العلمية فلا يخفى على أحد تأثير هذا البحث على المستهلكين بالذات في وقت تندر فيه مثل هذه الدراسات. ولقد ظهر هذا الوجه القبيح لشركة «مونسانتو» مؤخرًا، بعد أن لوحت باستخدام الدعاوى القانونية لفرض إرادتها على المستهلكين، وهو الأسلوب المفضل لديها، فقد قامت «مونسانتو» باستخدام الدعاوى القضائية والتهديدات لأكثر من 20 عاما من أجل فرض منتجاتها المعدلة وراثيا غير الموسومة على الجميع. وفي عام 1994، أصبحت ولاية فيرمونت أول ولاية تجبر الشركات على وضع علامات على الحليب ومنتجات الألبان المشتقة من أبقار حقنت بهرمون النمو البقري الاصطناعي المعدل جينيا والمثير للجدل. وردت شركة «مونسانتو» بدعوى قضائية في المحكمة الاتحادية، حيث فازت الشركة ضد الولاية على الرغم من أن هذا الهرمون الاصطناعي محظور في 27 بلداً في العالم بعدما تبين أنه يتسبب في زيادة مخاطر سرطان الثدي وسرطان الجهاز الهضمي... هذا عدا الأضرار الصحية الخطيرة على الأبقار. كما قامت «مونسانتو» باستخدام تكتيكات تخويف وترهيب ودعاوى قضائية على صغار المزارعين، من أجل فرض بذورها المعدلة وراثيا وهرمونات النمو على هؤلاء الأفراد. وفما بين عامي 1997 و2010، قدمت شركة «مونسانتو» 144 دعوى قضائية ضد المزارعين الصغار في الولاياتالمتحدة الأميركية. بالإضافة إلى ذلك، تمت تسوية 700 قضية خارج المحكمة بمبالغ غير معروفة. ومن المعروف أن شركة «مونسانتو» تهدف إلى الهيمنة على الزراعة عن طريق استخدام بذور محورة وراثيَا خاصة بها. وهذا الدور تمارسه «مونسانتو» خارج الولاياتالمتحدة أيضا، مما يقود الآلاف من المزارعين الفقراء إلى الانتحار، حيث تتسبب إجراءات «مونسانتو» بانتحار مزارع كل 30 دقيقة. فهل ستنجح «مونسانتو» بإيقاف مشروع القانون الأخير عبر أساليب «البلطجة»؟ وهل سينجح المستهلكون في كسر الهيمنة المونسانتية؟ أم أن الزمن بات هو وحده الكفيل بحل هذه القضية التي لم تستطع القوانين أن تحلها؟! ... هذا ما ستجاوب عنه الأيام القادمة بإذن الله. * أستاذ التقنية الحيوية المساعد كلية العلوم والآداب ببلجرشي جامعة الباحة-المملكة العربية السعودية. متخصص في الوراثة الجزيئية والتكنولوجيا الحيوية-قسم النبات، كلية العلوم، جامعة القاهرة.