بعد عدة أيام سيأتى رئيس جديد لمصر.. وتطوى شرعية اثنين من الرؤساء السابقين واقعياً وعملياً على الأقل لمن لا يقتنع به دستورياً وانتخابياً. قد يكون أكثر الإسلاميين فى التحالف محباً للدكتور مرسى، ولكن سيكون من تجاوز الواقع والحرث فى البحر والاشتباك فى المعارك العدمية أو الهلامية أو المعارك التى لا ميدان لها التمسك بشرعية د. مرسى أو الصراع أو إراقة نقطة دم واحدة من أجل عودة د. مرسى إلى الرئاسة.. وذلك بعد أن جرت فى النهر السياسى المصرى مياه كثيرة وتغيّر كل شىء فى هذه الأشهر.. ليس على صفحة المياه فحسب، ولكن فى عمقها وعلى شاطئيها أيضاً. قد لا يرغب ولا يهوى بعض الإسلاميين مفارقة زمان أحبه أو أشخاص أحبهم أو رئيس سابق أحبه ورآه الأفضل، ولكن هذا الاعتصام فى الزمان يعد أخطر من الاعتصام فى المكان.. لأن اعتصام البعض فى الزمان لن يضر سوى أولئك المعتصمين حينما يتجاوزهم الزمان ويسبقهم ويتركهم يجترون الذكريات والأمنيات.. فلا هم أدركوا قطار الواقع أو لحقوا به.. ولا هم تحركوا وحدهم بسرعة حركته ليسابقوه ويقدموا شيئاً جديداً يقنع الآخرين بأنهم الأجدر والأفضل. إن أكبر عيوب الحركة الإسلامية المعاصرة من وجهة نظرى هى الاعتصام فى الزمان رغم حركته الدؤوبة والأخطر منه هو محاولة وقف عجلة الزمان التى تمضى بالآخرين.. تعللاً بأن حركته لا تعجبنا ولا ترضينا أو لم تتم بإرادتنا أو عبر منطلقاتنا أو لم تأتِ بما كنا نرغب ونشتهى. وتعانى معظم الحركات الأيديولوجية من هذا المرض العضال.. فقد حكى لى أستاذنا د. قدرى حفنى أستاذ علم النفس السياسى بجامعة عين شمس، كيف أن الشيوعيين المصريين كانوا يجلسون كل يوم فى قهوة «ريتش» يتناقشون ويتجادلون فى أمور صغيرة بعضها شرعية حكم عبدالناصر وطرق عزله من الحكم، وقضايا فلسفية أخرى كثيرة فى الوقت الذى كان «ناصر» فيه يبنى الدولة خطوة خطوة ويبنى كثيراً من المؤسسات المصرية الحديثة.. وظل «ناصر» يبنى وهؤلاء أسرى مناقشاتهم البيزنطية التى لا تنتهى ولم تنته. لقد قابلت فى السجون بعض الذين يعتنقون فكر التكفير وكانوا يكفرون الجميع بمن فيهم مأمور السجن وضباطه وجنوده.. وكانوا يقولون لى: إنهم لا يعترفون بهذا المأمور. فأقول لهم: هذا أمر واقع.. هو المأمور وأنتم السجناء شئتم أم أبيتم.. كرهتم أم رضيتم.. ولا بد أن تتعاملوا مع هذا الواقع.. وكان إذا أحب أحد التكفيريين أمراً من إدارة السجن يرفض أن يكتب باسمه طلباً للمأمور فيكتبه له أحد أعضاء الجماعة الإسلامية. تأملت فى هذا الأمر مراراً وتكراراً، وقلت: إن هذا النموذج البسيط يتكرر كثيراً فى الحياة.. فالجميع لا يريد أن يقر بالواقع.. وقد يضيع الممكن من الخير والبر فى المزايدة على المستحيل.. والبعض يعشق الاعتصام فى الزمان الذى يهواه، ومع الأشخاص الذين يحبهم دون أن يدرى أن حب الأشياء أمر.. وواقع الحياة شىء آخر. لقد راهن كل الإسلاميين بمن فيهم قادة اعتصام رابعة على أن الحكومة المصرية أجبن وأعجز وأضعف من أن تفض اعتصام رابعة بالقوة.. دون أن يضع أحدهم احتمالاً واحداً لهذا الأمر.. أو يحسب له حساباً أو يضع خطة للانسحاب من رابعة انسحاباً منظماً دون خسائر، أو يتفاوض مع الحكومة لفض رابعة سلمياً إذا ما وقع هذا الاحتمال الذى يراه نادراً.. ثم حدثت الكارثة وقتل وجرح الآلاف من البسطاء. لقد عرض «عبدالناصر» على الإخوان فى أوائل الخمسينات أن يأخذوا هيئة التحرير كلها، وأعاد لهم الشرعية القانونية ل«الإخوان»، التى حلها النقراشى باشا.. وكان يشاورهم فى كل الأمور فى بداية الثورة وعرض عليهم المشاركة فى أول وزارة بوزيرين فرفضوا وعرض بعضهم تشكيل الوزارة كلها من الإخوان أو زيادة الاثنين إلى أربعة، فقال لهم: نبدأ باثنين، ثم بعد ذلك نصل إلى أربعة.. فرفض الإخوان.. ثم تأزمت الأمور.. لقد كانوا يرون أنهم الأجدر والأحق بقيادة مصر من هذه الثلة من الضباط الشبان قليلى الخبرة.. وقارنوا بين قوة الإخوان وشعبيتهم فى الشارع وهؤلاء الضباط الصغار قليلى الخبرة الشعبية ورأوا أنهم الأحق بالسلطة منهم، فتصارعا عليها.. وتوتر الأمر بينهما.. ثم بدأت الحرب الباردة التى تحولت إلى ساخنة، وذلك بمحاولة مجموعة من النظام الخاص اغتيال «ناصر».. وهذه المجموعة لم تستشر أو تستأذن المرشد الهضيبى الأب الذى كان يكره العنف ويمقته.. وهكذا كانت القاصمة بينهما. ولو أن الإخوان وقتها اعترفوا بالأمر الواقع وأن الأمر آل إلى «عبدالناصر».. وعلينا أن نأخذ المتاح فى الدعوة والحركة والسياسة لكان حال الحركة الإسلامية أفضل من ذلك.. ولكنهم اعتصموا فى الزمان.. كارهين «ناصر» ورافضين له ولشرعية حكمه.. ومضى قطار «عبدالناصر» بإيجابياته وسلبياته وحسناته وأخطائه واختفى الإسلاميون باعتصامهم هذا 18 عاماً كاملة.. بعضهم فى السجون وبعضهم ينتظر وفاة «ناصر». بعد عدة أيام سيكون هناك رئيس جديد لمصر.. هذا أمر واقعى سيترسخ على واقع الأرض وفى دنيا السياسة يوماً بعد يوم.. وعلى العقلاء من الإسلاميين أن يعترفوا على الأقل واقعياً به.. ويتعاملوا معه تعامل الشريك مع شريكه.. فإن لم يكن فتعامل الند للند سياسياً.. فإن لم يكن فتعامل المعارضة مع الحكم ليشتركا سوياً فى نهضة البلاد.. ويتنافسا ولا يتصارعا.. ويحاول كل منهما تقديم أفضل ما عنده لخدمة شعبه.. لا أن يضع كل منهما العصا فى عجلة الآخر ليوقفها.. أو يفجر الآخر ويدمره ليرد عليه خصمه بالسجون والمعتقلات والمحاكمات. إن الحركة الإسلامية المصرية الآن أمام تحدٍّ جديد بعد الانتخابات.. هل ستعتصم فى الزمان؟.. أم تعتصم فى المكان؟.. أم فيهما معاً؟.. أم تهجر نظرية الاعتصام بالكلية لتتفاعل مع الحياة بإيجابياتها وسلبياتها.. بطاعاتها ومعاصيها.. وبخيرها وشرها.. وتأخذ المتاح من الخير وتترك نظرية «إما كل شىء وإما لا شىء».