النجاح الكاسح لأغنية «بشرة خير» والتفاعل غير المسبوق من الشارع المصرى مع تلك الأغنية وكم إفيهات «فيس بوك» و«تويتر» الساخرة من انتقال الإيقاع الفجائى من الهادئ إلى الراقص، كل ما سبق يحمل دلالات تتجاوز المعنى السياسى المباشر لكلمات الأغنية وتتجاوز المفردات والألحان والغناء، اختلف مع بناء الأغنية الفنى كما شئت وقارن بينها وبين أغانى الستينات الوطنية كما شئت، لكنك لا تستطيع أن تنكر حالة الاندماج مع الإيقاع التى حدثت على المستوى الجمعى: بسطاء وأرستقراط، نساء ورجال، شباب وشيوخ.. ما حدث كان سداً لجوع الرقص والبهجة عند المصريين، ما حدث هو بداية إعادة تصالح مع أجسادنا التى خشبتها وحنطتها وشوهتها أفكار الوهابيين التى تعتبر الجسد نجاسة وإعاقة وليس كياناً وطاقة، جعلوا الجسد مشكلة وهو فى الأصل حل، نعم نحن لدينا مشكلة مع أجسادنا، والمستنكرون المتأففون من رقص المصريين على نغمات وإيقاع تلك الأغنية لديهم هم أيضاً مشكلة تحفظ وتزمت مبالغ فيه، يريدون تعليب الجسد فى علبة نشا مركّز وفورمالين مكثّف حتى يصبح الجسد مومياء والبدن جثة، الرقص اندماج مع الكون واقتباس لإيقاعه الغامض وكشف لحركته السرمدية، الصوفى عندما يريد أن يصل لقمة التعبير وتعجزه الكلمات يرقص ويجعل لغة الجسد عبر كهربائها السحرية تسرى فى أرواح رفاقه فى الخلوة أو الذكر أو الحضرة، نحن الشعب الوحيد الذى فشل فى صناعة رقصة جماعية مشتركة، وعندما تسافر إلى الخارج وتصادفك مهرجانات الشوارع هناك ويجذبك مواطن من أبناء البلد فى ميدان من يدك، داعياً إياك إلى مشاركتهم رقصتهم الوطنية ستكتشف نفسك فى حالة تلبس بالتكلس، تجد نفسك متخشباً متيبساً وكأنك منقوع حديثاً فى أسمنت، أو مرتدٍ لبدلة من الجبس، فقد أقنعوك فى «المحروسة» أن الرقص يفقدك الاحترام والهيبة والوقار، ظلوا يحشون دماغك بأن عشق الجسد فانٍ وأن هذا الجسد الفانى من الطبيعى أن تسارع بإفنائه أنت قرباناً لتنظيم أو جماعة بتفخيخ أو تفجير لكى يحتفل أقرانك فرحاً بأشلائك، هوايتنا صارت دفن هذا الجسد، خاصة المرأة، فى سواد كثيف ورداء سميك وقماش غليظ يضاعف حرارة القيظ ولفحة الهجير التى نعيشها ثم نطلق على كل ذلك إيماناً وورعاً وتقوى كى نقنع مسكينة بدخول قبرها الأسود للفرار من مصيرها الجهنمى الأسود الذى حتماً سيطولها نافذاً إلى مسام جسدها الذى لو عطرته فهى زانية وإذا أظهرت خصلة منه فهى آثمة وإذا زينته فهى عاهرة، أما إذا اهتزت بهجة وفرحاً فهى فى النار سبعين خريفاً! يحشو المجتمع عقل المرأة عندنا بتراث يمجد السمنة والاكتناز والربربة ويدبج المعلقات فى مدح اللحم والأرداف وكأنهم يربون جاموسة لذبحها على العيد!! انظر إلى بهجة وفرحة الأفارقة والهنود وشعوب أمريكا اللاتينية وهى ترقص على إيقاعاتها المختلفة وتطلق موجات السعادة وذبذبات الاندماج فى تماس سحرى مع الكون الذى جوهره الإيقاع، ليل ونهار، شهيق وزفير، صيف وشتاء، الكون كله من حولك يرقص من النبات إلى الفراشات إلى نبض القلب وحركة العضلات، حتى عمال البناء الغلابة فى عز الصيف يضاعفون عملهم وينجزونه فى ربع الوقت إذا شاركوا بعضهم الغناء والإيقاع. يا من تسخر من رقص المصريين وأنت بداخلك تصارع رغبة دفينة فى الرقص، فك فيونكة وعقدة وأنشوطة الكبت التى تحزم روحك وشاركهم، وانسَ السياسة مؤقتاً وتصالح مع جسدك وارقص حتى لو أغلقت على نفسك باب حجرتك وأطفأت المصابيح، من المؤكد أنه سيأتى الغد الذى تشارك فيه الجميع رقصة الفرح فى النور وتحت ضوء الشمس بمستقبل مشرق واعد بالخير.