(1) صحيح.. خلق الإنسان ضعيفاً.. طالما كان فى حاجة إلى الطعام والشراب، والنوم، والدواء، والراحة، فهو ضعيف، مهما كانت قدراته وإمكاناته وطاقاته.. مجرد بعوضة تؤذيه وتقض مضجعه «إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِى أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا».. وذبابة تثير أعصابه وتنكد عليه عيشه.. «وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ، مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ».. لا يستطيع الإنسان أن يصمد أمام ميكروب أو فيروس، رغم ضعف هذا ودقة ذاك.. وإذا هاجمه أحدهما وقع صريعاً، مستسلماً، خائراً.. ما أهونك أيها الإنسان.. مع ذلك، لا يمتنع عن إطلاق لسانه، ليغتاب هذا، وينم على ذاك.. لا يعلم أنه «لا يكب الناس على وجوههم فى النار إلا حصائد ألسنتهم»، كما جاء فى الحديث.. ولا يلتفت إلى قول عمر رضى الله عنه: «من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياؤه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه».. وينسى من أمثالنا قولهم: «لسانك حصانك، إن صنته صانك».. وقولهم: «إذا كان الكلام من فضة، فالسكوت من ذهب». (2) رغم ذلك، فنحن فى حاجة إلى الكلمة.. وإذا كانت هناك كلمات تورد صاحبها موارد التهلكة وتقوده إلى النار، فهناك كلمات أخرى تنجى صاحبها وترفع قدره وتقوده إلى الجنة.. فالقرآن كلام الله، وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم كلام أوحاه الله إليه.. والصدق كلمة، والشهادة بالحق كلمة.. والأمر بالمعروف كلمة، والنهى عن المنكر كلمة، وهكذا.. هناك قصص جميل وحسن، وهناك أحسن القصص الممتلئ دروساً وعظات وعبراً.. «نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ».. ولأن الكلمة كاشفة وفاضحة عما يدور فى الصدور، قيل: «تكلم حتى أعرفك».. أو «تكلم حتى أراك».. ومن روائع الإمام على رضى الله عنه فى ذلك، قوله: «المرء مخبوء تحت لسانه». (3) إذا كان هناك كلام ردىء، وهابط، فهناك على الناحية الأخرى كلام جيد وراقٍ.. يقال: «وإن من البيان لسحراً».. ويقال فى أمثالنا «الملافظ سعد».. حقاً ما أحوجنا هذه الأيام إلى الكلمة الطيبة، والبيان الطيب، والعبارة الطيبة.. تهدى نفساً، وتطمئن قلباً، وتسكن ألماً، وتزيل حزناً، وتفرج كرباً، وتزيح هماً.. يقول الحق جل وعلا: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا».. وقوله: «وَلَا تَسْتَوِى الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِى هِى أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِى حَمِيمٌ».. وقوله: « إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ».. ذلك لأن «الكلمة الطيبة صدقة».. من فرائد الإمام على قوله: «ما أكثر العبر وأقل الاعتبار».. حقاً، فالدروس كثيرة، لكن من يتعظ ومن يعتبر؟!.. قيل: السعيد من اتعظ بغيره.. حقاً، نحن فى هذه الأيام لا نتعظ حتى من تجاربنا، فهل نتعظ من تجارب غيرنا؟! وهل موات القلب، وسقم النفس يحول بيننا وبين العظة والاعتبار؟ يقول الإمام على: «من نصّب نفسه للناس إماماً فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم».. يقول تعالى: «لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا».. بمعنى أنه لا يتعظ إلا من امتلك فى الأصل يقظة الضمير، وحياة الفؤاد، وسلامة القلب. (4) من فرائد الإمام أيضاً، قوله: «شاركوا الذى أقبل عليه الرزق، فإنه أخلق للغنى وأجدر بإقبال الحظ عليه».. فى أمثالنا نقول: «من جاور السعيد، يسعد».. من ناحية أخرى، هو يزيد من سعادة السعيد، فإن التعاون مع صاحب الخبرة والتجربة، والكفاءة والقدرة والهمة والعزم، أحرى بأن يعينه على أداء مهامه وتحقيق خططه وبرامجه على أفضل وجه ممكن.. ومن فرائده أيضاً قوله: «من لان عوده، كثفت أغصانه»، وهو قول سديد.. فأصحاب النفوس السمحة، والقلوب الرقيقة، والطباع الهينة واللينة، والأخلاق الكريمة يقبل الناس عليهم ويلتفون حولهم.. وهؤلاء من قصدهم الحبيب المصطفى بالموطئين أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون.. أما أصحاب النفوس الجامدة، والقلوب القاسية، فينفر الناس منهم ولا يقربونهم.. ومن فرائده كذلك: «كل وعاء يضيق بما جعل فيه، إلا وعاء العلم فإنه يتسع».. يقول النبى (صلى الله عليه وسلم): «اثنان لا يشبعان، طالب علم وطالب مال»، أو كما قال.. لكن درجة العالم تفوق بكثير صاحب المال.. فعن العلم يقول المولى: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ».. وقوله: «يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ». (5) ورغم عظمة الكلمة الصادقة وروعتها وقوة تأثيرها، فإنها قد تكلف صاحبها عنتاً شديداً، قد تفقده حريته أو حتى حياته، خاصة فى عهود الاستبداد.. يقول صلى الله عليه وسلم: «أعظم الشهداء حمزة، ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر فقتله»، أو كما قال.. ويقول فى شأن أبى ذر رضى الله عنه: «ما أظلت الخضراء، ولا أقلت الغبراء من ذى لهجة أصدق، ولا أوفى من أبى ذر شبه عيسى بن مريم عليه السلام، فقال عمر بن الخطاب: كالحاسد يا رسول الله! أفتعرف ذلك له؟ قال: نعم فاعرفوه له»».. ومن وصيته صلى الله عليه وسلم له رضى الله عنه: «قل الحق وإن كان مراً».. وقوله: «رحم الله أبا ذر يمشى وحده، ويموت وحده، ويبعث يوم القيامة وحده»، أو كما قال.