«ما يجرى فينا، ومن حولنا، دوماً.. نجهل منه الكثير». لما قلتُ ما معناه ذلك لزميلى فى العمل «محمود الذُّهلى» وعلى ملامحى علاماتُ القلق والأسى المتناسب مع ما أعاينه، وأُعانى منه، قَهْقه ضاحكاً وأدار فى الهواء أطراف أصابعه مُتعجّباً منى، ثم بدأ لومه اليومى لى بقوله: «يا أخى بطَّل المبالغات بتاعتك دى، المهم يعنى، إيه اللى حصل، خلَّص ولخَّص..»، كأنه كان بكلامه العامىِّ الأخير، المستخفّ، يصدُّنى عن الحديث معه. فقطعتُ حبال الكلام ولم أحكِ له شيئاً مما يؤرِّقنى، كى أرحم نفسى من نظرته الساخرة وأحرمه من العبارة التى يقطع بها كل مرة أحاديثى الجوَّانية قائلاً: يا عمّ روَّق، وفكَّك من الحكاية دى.. «محمود» مفكوكٌ من كل الحكايات، ومستهينٌ بكل الأمور. وهو لا يرى فى الحياة شيئاً ذا قيمة، ولا يعقد أمله على أىِّ أمر. وهو يزعمُ أن حياة الرجل فى اصطياد النساء، والنساءُ حياتهنَّ فى الإيقاع بالرجال. ولا شىء عنده فى حياة الناس غير هذا وذاك. أقولُ له: إن الحياة مليئةٌ بأمورٍ أخرى غير الاصطياد والإيقاع، فيضحك! وإن الكون فيه الكثير من المعانى المستترة والغوامض السحرية، والمحيِّرات، فيضحك! وإن الحبَّ هو مفتاح اللحظات التى نشعر فيها بقوة الوهم الكاشفة لبقية الأوهام، فيضحك ويقول لى إننى أعيش فى الخيال، ولو عدتُ بعقلى إلى الواقع لعرفتُ أن الحب ادِّعاءٌ وديعٌ، تتعلَّل به المرأةُ لتصل إلى الرجل الذى يعجبها، ويتوسَّل به الرجلُ المهتمُّ كى ينال التى تعجبه من النساء، بأقل التكاليف. ولأننا نقضى معاً فى العمل وقتاً طويلاً، بلا عمل، يُمرِّر «محمود» أوقاتنا بحكاياتٍ رخيصةٍ عن فتوحاته السريرية، مستعيداً لذَّات انتصاراته الليلية المتوالية.. وحكاياته متشابهةٌ كمفرداته، ومسطّحة، حتى حين يطفح فمُه بالتفلسف الساذج والحكمة التافهة المازحة كى يبرِّر بقاءه حتى عمر الأربعين بلا زوجةٍ، ويتفنَّن فى تبيان أن الزواج هو أفدح المشروعات خسارةً وأعلاها كلفةً، ولا يؤدى فى خاتمة مطافه إلا إلى وضعٍ وحيدٍ: صراع عدوَّين يعيشان تحت سقفٍ واحد. ■ ■ «ما يجرى فينا، ومن حولنا، دوماً.. نعرفُ منه القليل». قلتُ ذلك فى نفسى ساعةَ خلوتُ فى حجرة العمل الخاوية، بعدما زاغ «محمود» قبل وقت انصرافنا وترك لى بطاقة توقيع الحضور والانصراف، لأمرِّرها له عند خروجى وعند المجىء فى الصباح.. لا أحد من حولى، ولن أجد عند عودتى للبيت أحداً، والوحدةُ طاحنة. زوجتى «حنان» اشترطت علىَّ، عند إصلاحنا آخرَ خلافٍ شَجَرَ بيننا، ألا أُضيِّق عليها فى خروجٍ أو غيابٍ عن البيت، فوافقتُ. لم أظنُّ أنها سوف تستغل الأمر بمثل هذه الطريقة، وأن المقدمات التى رتَّبتها سوف تقود إلى تلك النتيجة.. «أنا لستُ جاريةً أنت مالكها! طبعاً يا حبيبتى.. ولستُ موظفةً عندك توقِّع على كشف حضورها والانصراف! أكيد يا حنان.. وهذا البيت بيتى مثلما هو بيتك! هذا صحيح.. أنا لا أسألك أين تذهب ولا أنتقد أصدقاءك ومعارفك! نعم يا حبيبتى، ولكنى لا أذهب إلى أى مكان غير العمل وليس لى أصدقاء. - انت حُرّ فى نفسك، وأنا كمان حرة. - طيب يا حنان، خلّيكى على راحتك». قدَّرتُ أن راحتها هذه عارضةٌ، وأنها كامرأةٍ تحتاج مؤقتاً شيئاً من الحرية الضرورية لكل إنسان، وأن الوئام سوف يسود بيننا بعد تجاوز هذا الخلاف. ارتضيتُ بما اشترطَته، فلم أعد أسألها عن سبب خروجها فى بعض الأيام طيلة النهار، ورجوعها متأخرةً آخر الليل فى بعض الأمسيات، لا سيما أن إجابتها الجاهزة كانت لا تتغير: «كنت مع صاحباتى..». وكففتُ عن انتقاد رفقتها الدائمة لابنة عمها «هويدا» المطلَّقة مرتين، المحتشمة فى ملبسها الخارجى وإن كانت نظراتها لا تعرف للاحتشام طريقاً. لكن «هويدا» امرأةٌ لطيفةٌ فى العموم، وهى تؤكِّد لى دوماً أن «حنان» تُحبُّنى ولن تستغنى عنى أبداً.. فتطيبُ نفسى لهذا الكلام. بالأمس، أخبرتنى «حنان»، التى تحبنى ولن تستغنى عنى أبداً، أنها ستخرج اليوم ظهراً وستعود متأخرةً بعض الشىء. التزمتُ بما ألزمتُ نفسى به، فامتعضتُ وما اعترضتُ، وليتنى ما فعلتُ.. عندما عدتُ من مكان عملى إلى شقتنا الضيقة، التى حاربتُ الأقدار كى أقدر على شرائها بالتقسيط، وجدتُ الغرف والأنحاء ساكنةً. سكنتُ فى جلستى المعتادة على الكرسى «الأسيوطى» الذى لم يعد مريحاً، وانتظرتُ عودة «حنان» الحرة، التى خرجتْ مع صويحباتها. عقب أذان العشاء الذى وصلنى صوته من مكبرات صوتٍ عديدة، أتانى من زوجتى اتصالٌ تليفونى اعتذرتْ فيه عن عدم استطاعتها العودة الليلة، لاضطرارها للمبيت مع «هويدا» المريضة، جداً. فاجتهدتُ فى كظم غيظى من سُخف المفاجأة، وسألتها بلسانٍ يضطرب عن سرِّ المرض الذى يفاجئ «هويدا» دوماً فى أول الليلات وعن سبب الصخب الذى أسمعه من هاتفها، فأغلقت الخط بعدما قالت متعجِّلة: وبعدين يعنى، عادى هىَّ تعبانة شوية، ودى دوشة الشارع، نام انت دلوقتى وما تشغلش بالك، بكرة ترجع من الشغل تلاقينى فى البيت. ■ ■ «ما يجرى فينا، ومن حولنا، دوماً.. لا ندرى عنه شيئاً». خطر ذلك ببالى بعدما توغَّل الليلُ بوحدتى، وحرمنى من النوم القلقُ. خطر ببالى أن أستشير «محمود» غداً فى أحوال «حنان» حين يسألنى عنها مثلما يفعل فى معظم الأيام، ليطمئن علىَّ. ولسوف يُصدقنى القول فيما يحيِّرنى من أفعالها الغرائبية. وهو على كل حالٍ خبيرٌ بأمور النساء، وسوف يريحنى كلامه المتسطِّح المعتاد، وعبارته الدائمة: يا عمّ روَّق، وفُكَّك من الحكاية دى.. لا، لن أستشير أحداً، ولن تُجدى الاستشارة. وقد بُحتُ ل«محمود» قبل شهور بشكوكى وطغيان حيرتى، فتلطَّف معى فى الكلام على غير عادته، وتقرَّب حتى دعوته يوماً للغداء معنا بعد انقضاء وقت العمل، فلاحظتُ عندما عدتُ من غسيل يدى بعد الغداء، أنه و«حنان» يتبادلان نظرةً غير مريحة لى، فلم أستقبله بعدها بمنزلى. ولا معنى الآن لإعادة الكرَّة، عملاً بما كان أبى يكرِّره على مسامعى من نصوص الحكمة الخالدة: الصمتُ أسلمُ عند الابتلاء والاستتارُ أكرمُ.. ما حرَّر المرأة إلا ابتعادها عن الرجال.. لكل إنسان من اسمه نصيب، وما دام اسمك «فاهم» فلا بد أن تفهم. «فاهم»، هو اسمى الخامس الذى يعتزُّ به رجال عائلتى جميعهم، ويتخذونه لقباً. وقد أخبرونى منذ الصغر بأن جدى الخامس هذا كان اسمه «فهمى» ولم يُتمّ تعليمه، لكنه كان حكيماً مُحنّكاً، فسمَّاه الناسُ «فاهم» وأحاطوه بالاحترام.. فلماذا أرانى غير قادر على فهم «حنان» والتفاهم معها؟ لعله الحب. كان أبى يقول إن المحب يحسُّ بالأمور، لكنه لا يفهمها، بسبب تعطُّل العقل عندما يتهيَّج القلبُ ويتقلَّى بنيران المحبة. وقد يكون مع الحب كثيرٌ من التفهم والتقبُّل، ولكنه لا يصل إلى الفهم ولا يعرف الحياد. وكان أبى يرى أن «حنان» هى أصلح النساء لى؛ لأن أباها أحسن تربيتها فنشأتْ على أفضل ما تنشأ عليه البنات، ولسوف تكون لى خيرَ زوجة ولأبنائنا خيرَ أم.. ومات، فلم يعرف أن «حنان» ترفض الإنجاب، زاعمة أننا يجب أن نستمتع فترةً بحياتنا الزوجية قبل انشغالنا بالأطفال. لكننا صرنا لا نستمتع بشىءٍ، وقد مرَّت خمس سنواتٍ على زواجنا الصموت السكِّيت، فلا طفل فى المنزل يصخب فننشغل به. ولا «حنان» تبقى بقربى، فتشغلنى، وأنشغل بها. وكان أبى يقول: إن الحب يمتاز عن بقية العواطف، ولكن الناس لا يفهمون ذلك، فيخلطون بين ما لا يجب أن يختلط.. فالحب، حسبما قال، هو ما يكون بين المرأة والرجل، وهو متطوِّر الأشكال ولا يكاد يستقرّ يوماً على حال. هذا هو الحب، أما ما يكون بين الأم وأبنائها، فهو الأمومة. وتلك، حسبما أخبرنى أبى، هى أقوى العواطف الإنسانية والطبائع الحيوانية، ولا تطوُّر فيها.. لم أعرف معنى كلامه، لأننى حُرمت من أمى منذ طفولتى المبكرة. وكان يقول: إن العواطف مترابطة؛ فالأمومة تتصل بالعواطف الأخرى وترتبط بالأبوة وبالأخوَّة وبالقرابة، أما الحبُّ فلا يرتبط بشىءٍ، ولا شرط له.. فالحبُّ مفردٌ لا يُجمع، والعواطفُ جمعٌ لا يُفرد. ■ ■ لن أمضى طيلة ليلتى متقلِّباً بين هذه الهواجس والهموم. سأقوم الآن فأرتدى ملابسى بسرعة، وأصلُ بسرعة إلى بيت «هويدا»؛ لأن الشوارع الآن خالية. لن أجد «حنان» عند «هويدا» ولن أجد أحداً فى البيت، وسوف أتردَّد حيناً، ثم أنطلق إلى غرفة «محمود» المستأجرة فوق سطح البيت القديم بالحىّ الراقى. وقد أجد «حنان» عنده، فأسحبها من شعرها المنفوش إلى المأذون. فأُطلِّقها. وفى الصباح لن أذهب بالطبع إلى العمل، بل سأعود محطّماً إلى هذا المنزل الخاوى، وأهيمُ فى خوائه وخوائى. ولسوف أمرُّ بفترةٍ عصيبة، حتى تمرّ الأيام المُرّة وأجد «حنان» أخرى، تكون لى خير زوجة، ولأطفالى خير أم.. فماذا لو كانت «حنان» الأولى مظلومة، وإننى لو ذهبتُ إلى بيت «هويداً» سأجدها بالفعل مريضة وامرأتى تداويها، ولا شىء يثير أو يُبرّر الريبة التى تهتاج فى نفسى الآن؟! .. الصبحُ أطلَّ، ولا فهم عندى لما يجرى ولا قدرة لى على فعل. طيب، لن أفعل أى شىء، وسأكفّ عن السعى إلى الفهم وأقاومُ الاعتقاد بأن لكل إنسان من اسمه نصيباً، وأرتاح حيناً. لا بأس. الآن سأنام وأصحو بعد ساعتين، ومستسلماً لأقدارى سأذهب إلى العمل ولن أعمل شيئاً، حتى أعود إلى البيت فأجد امرأةً تسمى «حنان» كانت لى ذات يوم زوجة، ثم صارت رفيقة سكن.. وسأسكتُ؛ لأن السكوت فى البلايا أسلم، والاستتار أكرم.