تخرج من كتاب «الألف» إلى كتاب «التاريخ العالمى للخزى» ثم تنتبه لحالة الدهشة التى أنت فيها عند قراءة «تقرير برودى» الذى يشير ناحية «المرايا والمتاهات» الذى يخطف النوم من عينيك فتبدو مثل أحد البهاليل فى ليلة بلا قمر حيث يدفعك القمر إلى «القمر المقابل»، بعدها لا تستطيع أن تدفع عن روحك الضنى لتمضى آخر الليل مع «مديح العتمة»، وتختم بترنيمة لصوت الضرير يروى عن جده الغارب فى دمه: آثرت أن تموت كاملاً جسداً وروحاً رائعة شئت الدخول فى الظل دون ضراعة الجبان أو لوعة العليل الحزينة وآخر الأمر يأسرك صوت الخيال الفنتازى، للكاتب الأرجنتينى الكبير، صانع المتاهات «خورخى لويس بورخيس» ذلك الشاعر، القاص، كاتب المقال، الذى أمضى عمره يعيش تحت وطأة «ذاكرة لا نهائية»!! وأنت تحاول عبر القراءة والفهم، الوصول إلى إجابة، إلى رؤية، عن سؤاله تحاول بعزم ما نشأت عليه، واختزنت ثقافتك، تحاول بإدراكك ومخاوفك وإحساسك الباطنى، بكل أبديتك التى تناوشك مع كل لقفة نفس، تحاول أن تطلق من روحك ما تربيت عليه من خيال حتى تستطيع أن تلامس بعضاً من وهج هذا الضرير الذى لا يقاوم!! تعرف، وتكشف أنه عاش تناوشه جدليات ثلاث هى: قوة الميتافيزيقا وقوة الخيال، والفنتازيا، وقوة الكتب، حيث رمت به جدلياته إلى سنوات عمره التى أمضاها فى التحديق والبحث عن معنى الحق والخير والجمال، مضحياً بنظره إلى العماء الكامل، لينتهى أمره قابضاً بوحشة سنوات الظلام على معنى: الميلاد والموت الأزل والأبد، الحلم واليقظة، الواقع والأسطورة - حيث يعيش الإنسان هناك عند الحافة!! لقد كان بورخيس يشبه المكتبة، وحصل منها المعارف عبر الأزمان، واقتحم من خلالها مجالات العلم والفلسفة والفن، لذلك ظنها دائماً تعنى له: «الفردوس». وكان دائماً ما يقول عنه «أندريه موروا»: «قرأ بورخيس كل شىء، وخاصة ما لم يعد يقرأه أحد»!!. لقد أمضى «بورخيس» طوال عمره كرجل أدب، وعاش ومات وفى قلبه أن هذا العمر فى تماهٍ، وفى خط مستقيم مع ما يكتبه من أدب. يقول الناقد والمترجم «إبراهيم الخطيب» فى مقدمة ترجمة «مديح العتمة» عند «بورخيس» الوردة تعكس هشاشة ديمومة الأشياء، والسيف يذكر بأجداد الشاعر أبطال حرب الاستقلال، ويكتسى رمز النهر الذى يعكس الهزيمة ووهم الزمن المتلاشى، والحلم يعبر عن انفلات الحياة وهروبها، والمتاهة التى تشخص العماء والمصير الإنسانى الذى لا مخرج منه، والمرايا التى تعكس ظاهر العالم وازدواجيته ووعيه، أما النمر فلا يرمز فقط إلى قوة العنف والعتمة والشر، بل يرمز أيضاً إلى العلاقة المعقدة بين الأدب والواقع!! على هذا النحو تؤكد نصوص «بورخيس» وأشعاره، وموقفه ككاتب من العالم، ومن الزمن، أنه ينتمى لتلك السلالة من الكتاب الذين غامروا بتجريد رؤيتهم مبتعدين عما هو واقعى ومباشر. يقول «كارلوس فوينتس» أحد هؤلاء الكتاب العظام فى النثر اللاتينى إنه لولا نثر «بورخيس» أى قصصه بالذات ما كانت هناك أصلاً رواية أمريكية إسبانية!! يتخيل «بورخيس» فى أحد مجازاته، أن ملك الصين استضاف شيخ القبيلة العربى، فأكرمه، وأحسن وفادته، ومن باب الهزار والسخرية أطلقه فى متاهة صنعها شديدة التعقيد، ومن بداخلها لا يعود منها، ولا فرار من أسرارها.. تاه شيخ العرب وأمضاه الضنى والتعب، ولا خلاص، وحين شارف على النهاية جلس بجوار جدار المتاهة وبكى من الذل، حين ذلك أشفق عليه ملك الصين وأخرجه. بعد حين رد شيخ العرب الضيافة وعزم ملك الصين وأكرمه، وبعد انتهاء زمن الضيافة أخذ شيخ العرب ملك الصين وأركبه جملاً وذهب به إلى صحرائه التى تشبه محيطاً من الرمل وقال للملك الذى خذله: امضِ إلى هناك تلك هى متاهتى.