"آخر العنقود سكر معقود".. مقولة كاذبة، ففي قصتي آخر العنقود همّ ومسؤولية وحمل يفوق الحدود، وبما أنني آخر العنقود كما يقولون فقد جلست يوما أحتسي الشاي "مرة من نفسي" وأنا أتذكّر الماضي البعيد والسعيد في آن واحد، وكيف كنت صغيرة أندس وسط أخوتي الكبار فيدللونني ويحملونني، هذا يعطيني قبلة وذاك شوكولاتة وتلك تمشّط لي شعري، والجميع ينشدون لي أناشيد الطفولة البريئة ولم يكن لي اسم دلع واحد بل عدة أسماء متنوعة "بسبوسة، لوزة، كتكوتة، ننوسة". المهم أن الدلع والفرحة والحب والحنان أشكال وألوان حتى كبرت قليلا، وأنا طفلة الأسرة المدللة ووردة العائلة المصون وجوهرة الجواهر المكنونة، وصدّقت نفسي لبعض الوقت وعشت في دور أميرة الأحلام وست الحسن والجمال، حتى اصطدمت بالواقع وكانت الصدمة بالنسبة للعنقود كله مروعة فما بالكم بآخره. تزوّج أخوتي الواحد تلو الأخر، وأنا أغني في كل فرح وأزف وبالورود والصاجات ألفّ، حتى تزوّج آخر أخوتي ووجدتني بصحبة أبي وأمي وحيدة، وبدأت المشاكل ترفّ، مرض أبي وأصبح بحاجة لرعاية خاصة وكان الطبيب يأتي لبيتنا تباعا، وفي كل مرة يضع في يدي روشتة الأدوية ومعها تعليمات طويلة عريضة لا أول لها من آخر. تحمّلت العبء وحدي خاصة أن أمي أصابتها أمراض الشيخوخة المتواصلة، فكانت هي الأخرى بحاجة لرعاية خاصة، ورفضت دخول أي خادمة لمنزلنا كما رفضت أن تطأ أي ممرضة عتبة البيت، ونظرت حولي فإذا بإخوتي فص ملح وذاب، الكل قال "يا فكيك" وتركوني وحدي أواجه مصيري، فلا أصبحت كتكوتة ولا لوزة ولا ننوسة ولا بسبوسة ولا حتى صينية قرع. انشغل كل واحد منهم بحياته ومسؤولياته وأولاده وحاله وإذا شرفونا بالزيارة فعلى البسبوسة أو الهريسة "اللي هي أنا" أن تقوم بالخدمة المتكاملة، وتقديم الطلبات والحلويات ولا مانع من أن يقيم أحدهم عندنا يوم أو اثنين ولكن دون أن يشارك في أي شيء، إنما كضيف معزز مكرّم ومعه أولاده، يقفزون هنا وهناك كالقرود وأنا كالراعي الرسمي للجبلاية، عليّ أن أهدهد أو أهدد أو أفعل أي شيء، المهم أتصرّف والسلام. وبهذه الحياة المأساوية، بلا خصوصية ولا حلم في زواج أو استقرار أو حتى راحة بال، نظرت لكوب الشاي وقد برد في يدي فلم اهنأ حتى بشربه ساخنا، وصوت أمي تنادي عليّ بنبرة عالية تنمّ عن تأخري في الرد، بينما أسمع صوت إخوتي يتسامرون ويضحكون في غرفة الضيوف، وهم يحكون عن أولادهم ومشاكلهم المتكررة، تعثرت في طريقي لأمي ثلاثة مرات، وانا أهتف من أعماق قلبي وعيني على غرفة الضيوف "بسبوسة وننوسة وكتكوتة يا ظلمة".