نتفق جميعاً على أن الوطن يمر بمرحلة دقيقة، يتطلب عبورها جهود الكل، وأكبر قدر من اليقظة تجاه مساعى «تكسير المجاديف» والاستماتة، بهدف استكمال مشروع تفتيت مصر.. وفى ظنى أن هناك شعباً عانى طويلاً من سياسات عشوائية أوصلته إلى حدّ الثورة، وهو الأولى بالرعاية، وأتذكر عبارة المشير السيسى، فى تشخيصه «للحالة المصرية» عندما قال «إن هذا الشعب الكريم لم يجد من يحنو عليه»، وانطلاقاً من هذا الوصف الدقيق والتحليل الصائب، أرى أن الدعوة إلى التقشّف، يجب أن تشمل أساساً، من هم أولى بالبداية، فمعظم المصريين يعرفون كيف تم توزيع ثروات وأراضى البلد على فئات معينة، كان لبعضها مفهوم مدمّر فى تحقيق الثراء، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الإسراع بالتشبث، باختراع صندوق النقد والبنك الدوليين، والشهير باسم «الخصخصة»، لتصفية الصناعات المصرية التى أسسها المصريون على مدى تاريخهم الحديث، ومن ثم فتح الأبواب على مصاريعها، للسلع الأجنبية بواسطة السماسرة الجدد.. وقد ضرب هؤلاء ملايين، وربما مليارات العصافير بحجر «الخصخصة» الواحد القاتل. فالمصانع التى ارتكبت دولة جمال عبدالناصر «جريمة!؟» إقامتها، لإعلاء قامة مصر التنافسية، واحتضان شبابها داخل بلد يفتح آفاقاً رحبة للأمل فى فرصة عمل والعيش بكرامة، تهدر بأبخس الأثمان، وقد تبيعها «الدولة» التى تخلت عن دورها وانسحبت لصالح طبقة المتنفذين الجدد، بما لا يعادل واحداً من مائة، وربما واحداً من ألف من قيمتها الفعلية.. وأكثر الأمثلة بعثاً على الحزن، ويضرنى الآن، هو بحث للكاتب الصحفى أحمد السيد النجار، رئيس مجلس إدارة «الأهرام»، عن «بيع» شركة المراجل البخارية، بأقل من رُبع قيمة الأرض المقامة عليها، والأفدح أن نستورد، بعدها مباشرة، من الملاك الجدد، دفعة غلايات بمئات الملايين من الدولارات. وقد تابع كثيرون منا، حماس المؤسسات المالية «الدولية؟!» لإغلاق مجمع الألومنيوم، وهو أكبر مجمع ألومنيوم فى الشرق الأوسط، والأمثلة لا حصر لها، بهدف أن تتجرد مصر من كل أسباب قوتها الاقتصادية وأن تتحول إلى كيان مستهلك، مصيره بأيدى حفنة من المنتفعين، الذين تستخدمهم هذه المؤسسات المالية، والقوى السياسية التى تقف خلفها، لتقزيم مصر وإلهاء شعبها، الذى بنى كل هذه الصروح الصناعية، وهو يشيّد السد العالى، فى ظل تحديات ومؤامرات حقيقية، تتكشف الآن معظم خباياها، باللهاث خلف كسرة الخبز، بعد أن كان حلمه «صناعة كبرى، مزارع خضرا، تماثيل رخام ع الترعة، وأوبرا فى كل قرية عربية».. نفس رموز وأقطاب «الانفتاح» و«الحرية!» التى كانت تنقصهم فى استباحة كل شىء، عاثوا فساداً فى التعديات على النيل وحرمه، وكما يقول المثل: «إذا كان رب البيت بالدف ضارباً..»، تلت حمى إقامة الأبراج السكنية على ضفاف النيل وأحياناً، بداخل مياهه، إطلاق إشارة «حرية؟» التعدى على الأراضى الزراعية، بالتوسع فى البناء عليها، رغم المساحات الشاسعة من الأراضى الصحراوية، التى لا تبعد عن الزراعية، سوى بضعة أمتار، وذلك تحت سمع وبصر «الدولة» التى كانت كلمة السر، لكل مؤسساتها، «ما حدش يعكّر دم الناس الأغنياء»، حتى لا نتسبب فى هروب المستثمرين!، وكأن المستثمرين تدفقوا علينا من كل حدب وصوب، لينفقوا على مشروعات منتجة، بينما هم جاءوا فى أغلبيتهم الساحقة، لاقتناص فرصة، يستحيل أن نجدها فى سجلات أىّ من دول العالم.. وحتى الصناعات التى أقاموها، هى تلك الملوثة للبيئة والمحظور إقامتها، فى الدول التى تحرص على صحة وسلامة أبنائها، والأدهى أن هؤلاء «المستثمرين؟» يستفيدون استفادة غريبة من دعم الوقود الذى يتحمله المواطن الغلبان، ثم يعرضون منتجهم بالأسعار العالمية، وكأنهم يحصلون، مثلاً، على لتر السولار أو متر الغاز بالأسعار السائدة فى العالم.. ولا شك أننا لا سبيل أمامنا سوى التقشف لإعادة بناء وطننا، الذى خرّبوه وأنهكوه ونهبوه، والذى كانت جماعات الإسلام السياسى تمضى نحو هدف تقسيمه، ولكنى أرى أن الطبقات الكادحة، أولى بالرعاية، وأن الأولى «بالبداية» فى تسديد فواتير مستحقات البلد، شعباً ودولة، هم من لديهم المليارات واستنزفوا مع ذلك، شعباً لم يجد من يحنو عليه..