إن الفساد فى مصر هو المسئول الأكبر عن الظلم الاجتماعى الذى لم ترفع ثورة 25 يناير منه إلا القليل، وهو أحد أهم أسباب حالة التخلف العام والعجز عن التنمية. وأحسب أنه لولا الفساد مع سوء التخطيط والتنفيذ لما تقدمت علينا الصين ولا ماليزيا ولا كوريا. ويتخذ الفساد فى مصر وضعاً غريباً؛ فرغم ثورة 25 يناير فإن مشكلة الفساد تزداد قوة واستفحالاً، وحجم الهدر فى أموال الحكومة يقارب عشرات المليارات من الدولارات. ومن أكثر الظواهر التى تُحزن المواطن المصرى وتثير استياءه: التبذير وعدم المبالاة فى طريقة استخدام الأموال الحكومية، وكأن أموالها مباحة وكأنها ليست أموال الشعب. ومن الغريب أن كثيراً من الناس فى بلدنا لا يدركون أن أموال الدولة هى أموال الشعب، وأن حفاظ كل فرد عليها إنما هو حفاظ على أمواله الخاصة. يبدو أننا نحتاج إلى وقت طويل وتوعية كبيرة ومنظمة حتى يدرك الناس هذه الحقيقة. إن أموال الدولة أو الشعب -لا فرق- أموال مقدسة، وهى فى الشريعة الإسلامية «مال الله».. نعم «مال الله»، ولكن أكثرهم لا يعلمون. فلا ينبغى العبث بها، ولا يجب أن ينالها إلا من يستحقها. وهذا الصباح تدخل الحكومة الجديدة يومها الثانى، وهى أمام تحديات كبيرة: الأمن، ومكافحة الإرهاب، والفقر، والطاقة، والمرور.. والقائمة طويلة، ومن هنا يجب أن يتصدر «فقه الأولويات» عمل الحكومة؛ لأنها إذا اشتغلت على كل الجبهات لن تنجز شيئاً ملموساً يمكن أن يشعر به المواطن.. وقد ظهر من تصريحات رئيس الحكومة الجديد أنه على وعى بهذا، كما شدد على «ضرورة القضاء على البيروقراطية، واحترام الأجهزة الرقابية لتنير الطريق، وتحمى البلاد من الفساد ليس فقط المالى، إنما أيضاً الفساد الإدارى الذى يعطل المستثمرين». وهذه مهمة ملحة، لأنه بدون القضاء على البيروقراطية والفساد لا يمكن التقدم فى الملف الاقتصادى؛ فالفساد المتفشى الذى شهدته مصر فى العقود الأخيرة أدى إلى فشل كل المعارك لمكافحة الفقر، وليس المسئول عن ذلك فساد الضمير ومرضه فقط، بل كذلك انعدام القوانين الرادعة، والتخاذل فى تطبيقها، وضعف الرواتب، والجشع اللامنتهى. فالفساد السارى فى كثير من المشاريع العامة على المستوى القومى يمثل عقبة كبيرة أمام كل خطط التنمية، وهو يكلف الدولة خسائر ضخمة فى الأموال التى نحن بحاجة ماسة إليها لتخفيف الفقر، وتمويل البحث العلمى والتعليم، والإنفاق على الرعاية الصحية. وإذا لم يتخذ رئيس الوزراء الجديد التدابير الصارمة المضادة للفساد المالى والإدارى، والرشوة، والمحسوبية، والسمسرة غير المعلنة، والتهرب الضريبى، وإهدار أموال الدولة، فإن جهود إعادة بناء اقتصاد مصر ستذهب سدى، وستضيع ثمار مشروعات التنمية كلها بسبب استيلاء بعض النخب الإدارية الفاسدة على أموال الدولة، وبسبب الرعونة أيضاً فى توظيفها. لقد استفحل الفساد الاقتصادى والإدارى، وتحول إلى سرطان مزمن يستشرى فى جسد الدولة وأيضاً فى القطاع الخاص. ولا تعانى مصر من ظاهرة الفساد وحدها، حيث تشترك معها معظم دول العالم لا سيما دول العالم الثالث، فهو لم يعد مجرد أزمة تواجها دولة واحدة أو حتى عدة دول. وفى كل الأحوال يجب التنبه إلى أن الفساد فى مصر لا يتحرك فقط من أعلى إلى أسفل، أى لا يأتى فقط من بعض الموظفين الإداريين الكبار، وإنما يأتى كذلك من أسفل إلى أعلى، أى من بعض الموظفين الصغار والعمال، فهم أيضاً يمارسون الفساد فى نطاق عملهم وعلى طريقتهم الخاصة، ثم يتحرك الفساد إلى أعلى، على قدر تغلغل الفساد داخل كل مؤسسة. وفى أغلب الأحيان يتحرك الفساد من أعلى إلى أسفل، وهو ما حدث فى العقود الثلاثة الأخيرة، فالناس على دين ملوكهم! إن الفساد غالباً ما يعمل داخل دائرة مغلقة، تزيد وتنقص. وفى أحيان أخرى يكون على المكشوف، فعدد الموظفين الذين يفتحون أدراجهم علنياً ليس قليلاً. ومن هنا نجد أن مواجهة الفساد تحتاج إلى رؤية وخطة استراتيجية، وليست مجرد حملات أو خبطات فردية؛ فآثار الفساد تطول كافة مصالح المجتمع والدولة. والقيادة السياسية مطالبة بأن تضرب بيد من حديد على رؤوس المفسدين وأن تفكر جدياً فى دراسة وصياغة استراتيجية وطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد والرشوة، على أن تتضمن الاستراتيجية مساءلة كل مسئول مهما كان موقعه وفقاً للأنظمة وتعزيز مبدأ الوضوح والشفافية داخل مؤسسات الدولة. وتشريع القوانين وحده لا يكفى، بل لا بد من تفعيل هذه القوانين وتطبيقها دون استثناء على كل المخالفين بلا تمييز؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما جاءه من يشفع فى المخزومية التى سرقت، قال: «إِنَّما أَهْلَكَ الذين مِنْ قَبْلِكم أَنَّهم كانوا إِذا سَرَقَ فيهم الشَّرِيفُ تَرَكُوه، وإِذا سَرَقَ فيهم الضَّعِيفُ أقاموا عليه الحَدَّ، وايْمُ الله لَوْ أَنَّ فاطمةَ بِنْتَ محمدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَها». (متفق عليه)، وهذا أيضاً -سيدى رسول الله- سبب هلاك من جاء بعدهم، لكن الناس لا تدرك حكمتك فى النهوض بالأمم، ولا يأخذون من كلامك إلا ما يُرضى أهواءهم ومصالحهم الضيقة. ولذا، فالحل العاجل فى مصر هو تفعيل القوانين دون استثناء، وتطبيقها، والتشهير بالفاسدين، كى يكون ذلك «رادعاً» لمن يفكر فى ممارسة أى نوع من أنواع الفساد. فنحن بحاجة إلى فلسفة جديدة للردع، وهذا هو أحد دروس محمد صلى الله عليه وسلم.