تتزامن الذكرى ال29 للغزو العراقي للكويت هذا العام والتي صادفت الجمعة الثاني من أغسطس مع خطوات حثيثة من قيادة البلدين لطي صفحة الماضي المؤلم وفتح صفحة جديدة من التعاون المثمر وحل المشكلات بين الأشقاء. ولعل الزيارة التي قام بها أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، إلى العراق في 19 يونيو الماضي أقل ما توصف بأنها "تاريخية" وتُعد "مؤشرا مهما" لتعزيز الاتفاقات السابقة بين حكومتي البلدين وحل ما تبقى من أمور عالقة واحدة تلو الأخرى وتذليل العقبات أمام التعاون الثنائي في مختلف المجالات. ومثَّل فجر الثاني من أغسطس عام 1990 ذكرى أليمة أصابت كل كويتي ولحظات ملؤها الأسى والحزن خيمت على كل بيت في حدث هو الأقسى في تاريخ الكويت الحديث، ومع ذلك يحاول الكويتيون نفض ذلك الغبار العالق منذ 29 عاما وبدء صفحة جديدة عنوانها العلاقات الطيبة وحسن الجوار والمصالح المشتركة. ولا بد من التذكير بذلك اليوم الأسود في تاريخ الكويت الحزين، فمع دخول القوات العراقية الغازية أرض الكويت الطيبة حينها أعلن المواطنون رفضهم للعدوان السافر، ووقف أبناء الكويت في الداخل والخارج إلى جانب قيادتهم الشرعية صفا واحدا للدفاع عن الوطن وسيادته وحريته. وفي مقابل الصمود الكبير عمد النظام العراقي السابق إلى اتباع سياسة الأرض المحروقة، ولجأ إلى إحراق 752 بئرا نفطية وحفر الخنادق التي ملأها بالنفط والألغام لتكون في وقت لاحق من فترة الغزو حدا فاصلا بين القوات العراقية وقوات التحالف. ذكريات الصمود ويستذكر الكويتيون الإدارة الحكيمة للأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح والأمير الوالد الراحل الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح طيب الله ثراهما، فضلا عن الأمير الحالي الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح الذي كان يشغل منصب نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية آنذاك جنبا إلى جنب مع التأييد الشعبي الذي كان له الدور البارز والكبير في كسب تأييد المجتمع الدولي لتحرير الكويت من براثن الغزو العراقي.
ولم يقف المجتمع الدولي صامتا أمام هذا الحدث العظيم بل أدان جريمة النظام العراقي السابق في حق الكويت وأصدر مجلس الأمن الدولي قرارات حاسمة بدءا بالقرار رقم 660 الذي طالب النظام العراقي حينئذ بالانسحاب فورا، بالإضافة إلى حزمة القرارات التي أصدرها المجلس تحت بند الفصل السابع من الميثاق والقاضية باستخدام القوة لضمان تطبيق القرارات. وفي موازاة ذلك صدرت الكثير من المواقف العربية والدولية التي تدين النظام العراقي السابق وتطالبه بالانسحاب الفوري من الأراضي الكويتية وتحمله المسؤولية عما لحق بالكويت من أضرار ناجمة عن عدوانه. وفي المقدمة من ذلك كان الموقف المصري الصلب الذي انحاز للحق وقاد جهودا حثيثة من أجل تحرير الكويت. ولم يخف على أحد الدور الكبير للشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح حينذاك في حشد التأييد الدبلوماسي العربي والدولي لمصلحة دعم ومساندة الشرعية الكويتية استنادا إلى خبرته الدبلوماسية الكبيرة منذ بداية تسلمه حقيبة وزارة الخارجية عام 1963، ونجاحه في توثيق علاقات دولة الكويتبالأممالمتحدة ومنظماتها ودولها الأعضاء. ونجحت جهود أمير الكويت الدبلوماسية في كسب مساندة عالمية وأممية من خلال توافق الإرادة الدولية مع قيادة قوات التحالف الدولي لطرد المعتدي وتحرير الكويت. فعقب الغزو ارتكزت سياسة الكويت الخارجية تجاه العراق وتحديدا في الفترة من 1990 -2001 إلى عدة ثوابت قائمة على أساس القرارات الدولية الشرعية الصادرة عن مجلس الأمن التي صدرت أثناء فترة الغزو وقبلها النظام العراقي بقرار مجلس الأمن رقم 687 لسنة 1991. وتميزت سياسة الكويت الخارجية تجاه العراق حتى عام 2003 بنقطتين مهمتين هما أن النظام العراقي السابق لا يمكن الوثوق به والتعامل معه، وأن الشعب العراقي مغلوب على أمره وهو ضحية للنظام الحاكم حينئذ لذلك وقفت الكويت إلى جانب الشعب العراقي باعتباره شعبا عربيا مسلما. شعب شقيق وفي هذا الجانب قال الشيخ صباح الأحمد في تلك الفترة "نحن نفرق جيدا بين النظام والشعب ولا يسعنا إطلاقا أن نسمع عن شعب شقيق يتعرض للجوع والفقر"، مؤكدا أن الكويت تساعد الشعب العراقي بعد التحرير بإرسال المعونات خاصة للنازحين من الشمال والجنوب. وكانت مقولته الشهيرة في 4 أغسطس 1998 التي جاءت ردا على مزاعم النظام العراقي حينئذ بأن الكويت تقف وراء استمرار العقوبات الدولية على حكومة بغداد الدليل الأكبر والقاطع على الموقف الكويتي حين قال "نحن لسنا دولة عظمى حتى نفرض على مجلس الأمن أن يرفع العقوبات أو يبقيها على العراق" مؤكدا أن العراقيين الذين يوجدون على أرض الكويت يعيشون فيها بكل تقدير واحترام. وفي تصريح آخر للشيخ صباح الأحمد بتاريخ 23 نوفمبر 1998 في ختام زيارة وزير الخارجية الأسبق عمرو موسى للكويت بخصوص الأزمة العراقية مع العالم أكد أن الكويت لا تخطط للمساعدة على عمل أي شيء سلبي داخل العراق فمسألة إسقاط صدام حسين شأن داخلي عراقي لا دخل للكويت فيه. واستنادا إلى المبادئ الإنسانية التي تؤمن بها الكويت حكومة وشعبا انطلقت المساعدات الكويتية إلى شعب العراق منذ عام 1993، وبتوجيهات من الشيخ صباح الأحمد بدأت جمعية الهلال الأحمر الكويتي في إرسال مساعداتها إلى لاجئي العراق في إيران منذ أبريل عام 1995، وذلك حرصا على الوقوف في صف الشعب العراقي في كل الأوقات بإنسانية ومحبة واحترام محافظا على حق الجيرة والجوار. وعقب حرب تحرير العراق عام 2003 سارعت الكويت إلى تقديم العون والإغاثة إلى اللاجئين في هذا البلد حيث تعد الكويت اليوم من أكبر المانحين لهم. موقف إنساني وفي أبريل 2008 تبرعت الكويت بمبلغ مليون دولار لمفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين لدعم عملياتها في مساعدة اللاجئين العراقيين بهدف تخفيف معاناتهم وتأمين احتياجاتهم من غذاء ومأوى وصحة وتعليم. وفي نوفمبر عام 2010 أعلنت الكويت تقديم مليون دولار لمفوضية الأممالمتحدة لشؤون اللاجئين لمساعدة النازحين داخل العراق ومن اضطرتهم الظروف والأوضاع الأمنية إلى النزوح إلى أماكن أخرى. وشددت الكويت أثناء اجتماع اللجنة الاجتماعية والإنسانية والثقافية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة ال65 على أهمية الجانب الإنساني في مشكلة النازحين العراقيين وتوفير الحماية لهم وتلبية احتياجاتهم وضمان أمنهم وأكدت أنها مسؤولية مشتركة بين الدول والمجتمع الدولي. وفي ضوء تزايد أعداد النازحين داخل المدن العراقية، وتدهور أوضاعهم نتيجة للصراع الدائر في العراق تقدمت الكويت في 11 يوليو 2014 بتبرع سخي للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الأممالمتحدة يقدر بثلاثة ملايين دولار لعملياتها الإنسانية بالعراق، كما قدمت الكويت عام 2015 مبلغا وقدره 200 مليون دولار لإغاثة النازحين هناك أيضا. ووزعت الكويت ممثلة في جمعياتها الخيرية قبيل حلول شهر رمضان 2016 أكثر من 12 ألف سلة غذائية على الأسر النازحة في إقليم كردستان، في حين شهد العام الماضي توزيع نحو 40 ألف سلة غذائية من قبل الهلال الأحمر الكويتي على العائلات النازحة في مدن الإقليم. وفي يوليو 2016 تعهدت الكويت بتقديم مساعدات إنسانية للعراق بقيمة 176 مليون دولار وذلك خلال مؤتمر المانحين لدعم العراق الذي عقد برعاية الكويت ودول أخرى في واشنطن، ما دفع مجلس الأمن إلى الإشادة بما تقدمه الكويت من دعم مستمر لتحقيق الاستقرار في العراق. وعقب إعلان الحكومة العراقية تحرير مدينة الموصل مما يسمى بتنظيم (داعش) في يوليو 2017 استضافت الكويت في شهر فبراير الماضي مؤتمرا دوليا لإعادة إعمار المناطق المحررة في العراق تماشيا مع مبادئها في دعم الأشقاء، وترجمة حقيقية لتسميتها من قبل منظمة الأممالمتحدة (مركزا للعمل الإنساني، واستطاع المؤتمر أن يحصل على تعهدات من الدول والجهات المشاركة بإجمالي إسهامات قدرها 30 مليار دولار على هيئة قروض وتسهيلات ائتمانية وتبرعات لمساعدة الشعب العراقي في تجاوز محنته خصوصا بعد أن عانى كثيرا من الحروب التي وقعت على أرضه خلال الفترة الماضية. ولعل الزيارات المتبادلة بين كبار المسؤولين وعلى أعلى المستويات بين البلدين الشقيقين تسعى إلى التخلص من ذكرى الماضي الأليم وتذليل العقبات أمام التعاون الثنائي في مختلف المجالات ، لا سيما في مجالي الغاز والتجارة، وتسهيل حركة البضائع والسلع بين البلدين.