لابد فى النهاية من مبادرة توقف أعمال العنف والإرهاب، وتعيد إلى البلاد حالة الاستقرار والأمن، وتمكنها من تعبئة كل جهودها من أجل بناء الدولة المدنية العصرية التى تلم شمل الجميع، وتقوم على حكم الدستور والقانون. وشرط المبادرة الصحيحة حسن التوقيت، والحفاظ على معنى الدولة وكرامتها، والالتزام بحكم القانون، وحرمان المعتدى من أن يجنى ثمار عدوانه، ونزع القداسات المفتعلة التى تعطى للبعض حقوقاً ليست لهم، والإقرار بحق الإرادة الوطنية فى المفاضلة بين الخيارات المطروحة، دون وصاية نخبة محدودة تدّعى الحكمة وتعطى لنفسها حق الاختيار بدلاً عن الأمة! لأن ما يجرى فى مصر الآن ليس نزاعاً بين الحكومة الانتقالية وجماعة الإخوان المسلمين حول حقوق يختلف عليها الجانبان يمكن أن نجد له حلاً وسطاً يتنازل فيه كل جانب عن بعض مطالبه وحقوقه، ولكنه خلاف جذرى وجودى بين جماعة الإخوان المسلمين وغالبية الأمة، ممثلة فى الغالبية العظمى من الشعب وكافة مؤسسات الدولة ومعظم مؤسسات المجتمع المدنى، الذين يرفضون جميعاً، بعد تجربة مريرة لم تستمر لأكثر من عام اكتوى الجميع بنارها، كلَّ ما يتعلق بجماعة الإخوان المسلمين؛ نهجها فى الحكم والسلطة، وإصرارها على الاستحواذ، وتصورها الواهم بأنها وحدها التى تمثل الإسلام وليست مجرد وجهة نظر فى الدين، وحرصها الدائم على أن تحتفظ لنفسها بوجهين متناقضين: وجه للدعوة العلنية ووجه للعمل السرى، وفشلها التاريخى فى إبراء ساحتها من العنف والإرهاب منذ ارتكابها جريمة الخازندار، وجمودها الفكرى والعقائدى الذى لم يساعدها على التخلص من الفكر القطبى الذى يكفر المجتمع ويشرّع للعنف ولا يزال يشكل جزءاً مهماً من فكر الجماعة الباطنى، وطرائق تربيتها للشباب التى تقوم على السمع والطاعة، والانغلاق ورفض الآخر، وازدراء الجماعة الوطنية، واستخدام العنف سلاحاً لإصلاح الدين والدنيا! وما من حل يغفل عن مخاطبة هذه المشكلات يمكن أن يحقق المصالحة الوطنية مع الجماعة، اكتفاءً بتسوية شكلية لا تخاطب أعماق المشكلة وجذورها، خاصة أن المصريين خَبَروا الجماعة إلى عمقها الأخير وعرفوا وجهها الآخر، عندما اختارت طريق العنف واستمرأت أعمال الإرهاب بما فى ذلك السيارات المفخخة والاغتيالات الوحشية وتوزيع القنابل اليدوية الصنع بالعشرات والمئات هدايا للشعب! والسعى إلى تقبيح صورة الجيش الوطنى ومحاولة هدمه، والتحالف البغيض مع كل تنظيمات الإرهاب بما فى ذلك تنظيم القاعدة، والولوغ فى دماء المصريين بصورة وحشية كما حدث فى كرداسة، والإصرار على عقاب الشعب ووقف حاله لتصورهم الكاذب بأن الجماعة أهم من الوطن وأقوى من كل مؤسسات الدولة ومن حقهم الوصاية على الشعب باعتبارهم إخواناً مسلمين! ولا أظن أن أى مبادرة تتجاوز هذه المشكلات سوف تتقبلها جموع المصريين، مهما حاولنا تفخيم بعض الأشخاص الوسطاء أو إلباسهم ثوب الحكمة، خاصة عندما يكون لمعظمهم مواقف واضحة سابقة تسلب عنهم الموضوعية والحياد اللذين يتحدث عنهما كثيرا د. حسن نافعة فى مبادرته التى اندثرت يوم أن وُلدت، وسط نفور جماهيرى واسع طال رذاذه صاحب المبادرة! المبادرة عقيمة لعدة أسباب؛ أولها: سوء التوقيت الذى تجاهل حنق المصريين من الجماعة التى لا تزال تصر على أهدافها المستحيلة الثلاثة؛ عودة مرسى ودستوره ومجلسه التشريعى المسخ، وتصمم على عقاب الشعب المصرى، ولا تقدم إشارة واحدة تثبت رغبتها فى المصالحة! وثانيها: أن المبادرة وضعت الدولة والجماعة على مستوى واحد، متجاهلة أن مواقف الدولة كانت كلها فى نطاق ردود الأفعال، أما الفعل فكان من صنع الجماعة وحدها، ابتداءً من خروج طوابير العنف كل ليلة من داخل اعتصامى «رابعة والنهضة»، تطلق الخرطوش والرصاص وتقطع الطريق على الناس وتهاجم أقسام ونقاط الشرطة، إلى السيارات المفخخة وزرع القنابل العشوائية فى الشوارع. والأكثر خطورة من ذلك أن مبادرة د. نافعة باهظة الكُلفة؛ تلزم الدولة بأن تدفع ثمناً غالياً يهدر أسس الدولة وكيانها، لأن المبادرة تطلب دون أى مسوغ عملى أو قانونى أن تبادر الدولة وليست جماعة الإخوان المسلمين إلى اتخاذ الخطوة الأولى فى اتجاه المصالحة، والعمل على بناء ما يكفى من جسور الثقة لإقناع الجماعة بأنها شريك فى بناء الوطن، وأن الدولة لا تنوى استئصالها. وأول هذه الجسور التى تقترحها المبادرة الإفراج عن قادة الجماعة؛ «بديع والشاطر والعريان وحجازى»، وتعليق كل إجراءات التحقيق والمحاكمة، انتظاراً لنتائج لجنة تقصى الحقائق، التى يطالب د. نافعة بأن تتولى التحقيق فى كل الوقائع والأحداث التى جرت منذ 25 يناير عام 2011 مقابل هدنة، مجرد هدنة، تستهدف وقف المظاهرات والاحتجاجات والقصف الإعلامى المتبادل إلى أن ينتهى الوسيط ولجنة الحكماء من إقرار خطة المصالحة وآلياتها وفرضها على الجانبين! بما يؤكد أن الدولة هى التى قامت بالعدوان على الجماعة وقضت على شرعية الرئيس المعزول وهى التى بادرت بكل أعمال العنف، وهى المسئولة عن تصحيح مواقفها! وذلك عكس ما حدث تماماً! وأظن أن الحكم المطلق الذى أصدره د. حسن نافعة بأن جماعة الإخوان المسلمين قادرة على أن تخوض حرباً طويلة الأمد تهدد بتفسخ الدولة وانهيارها فوق رؤوس الجميع وإفشال خريطة الطريق - مجرد حكم مسبق لا يستند إلى حقائق صحيحة، لأن الوقائع والأحداث المسجلة تقول إن قدرة الجماعة على الحشد قد تقلَّصت كثيراً وانحسرت فى بعض البؤر المعروفة؛ فى الطالبية والهرم والألف مسكن والمطرية، كما أن قدرة الجماعة على الفعل قد قلَّت كثيراً هى الأخرى، وباعدت بين توقيتات الجرائم التى ترتكبها الجماعة، على حين تزداد كراهية الناس وازدراؤها لأفعال الجماعة. وأظن أن موازين القوى على أرض الواقع تقول بوضوح بالغ إن هزيمة الجماعة سوف تحدث بعد أن بات من المستحيل عودتها إلى الحكم؛ لأن الجماعة تواجه الشعب والجيش والشرطة وجميع مؤسسات الدولة، وأن مصيرها المحتوم هو الانتحار الجماعى. وفضلاً عن ذلك، فإن مبادرة د. نافعة، التى تكاد تكون طوق نجاة للجماعة، أعطت لنفسها الحق فى إلزام الجميع بالاعتراف بحق جماعة الإخوان المسلمين، ابتداءً، فى الوجود ككيان سياسى على الساحة، دون اعتبار لأحكام القضاء ومطالبات الجماهير التى ترفض إعطاء هذه الجماعة أى شرعية جديدة، ما لم تعلن تنصلها من أعمال الإرهاب وأسفها لتورطها فى ارتكاب هذه الجرائم، وتؤكد التزامها بمراجعة كل أفكارها ومناهجها. وبرغم اعتراف د. نافعة فى مبادرته بأن أخطاء الرئيس المعزول هى التى دفعت جماهير الشعب إلى الخروج فى 30 يونيو للمطالبة بإسقاط حكم الجماعة، وأن الجيش اضطُرَّ للتدخل لأن البلاد كانت على شفا حرب أهلية - يصر د. نافعة على أن المرحلة الانتقالية بعد 3 يوليو لا تتمتع بأى شرعية! فى الوقت الذى ينتصر فيه لاستمرار شرعية «مرسى» بعد خروج الجماهير فى 30 يونيو بما يفضح معاييره المزدوجة التى تتماهى مع معايير قوى إقليمية ودولية تعتبر ما حدث فى 30 يونيو مجرد انقلاب عسكرى، وأظن أن هذا التناقض ينسف المبادرة من أساسها. والحق أن مبادرة د. نافعة لا تختلف كثيراً فى الجوهر عن كل المبادرات السابقة التى اقترحها وسطاء يبحثون لأنفسهم عن دور. وقد تختلف مبادرة د. نافعة فى بعض التفاصيل عن مبادرة «العوا» وعن مبادرات أخرى جرت خلال مواجهة الدولة لموجة الإرهاب الأولى التى قادتها الجماعة الإسلامية فى التسعينات من القرن الماضى، عندما ذهبت نخبة محدودة يتقدمها الشيخ الشعراوى -يرحمه الله- إلى وزير الداخلية الأسبق محمد عبدالحليم موسى، تطالب الدولة بالإفراج عن أفراد الجماعة الذين تم ضبطهم ولم يقدموا بعدُ للمحاكمة، مقابل أن تتوقف الجماعة الإسلامية عن أعمال الإرهاب، لكن الدولة رفضت هذه التوجه، وأقالت وزير الداخلية لأنه ما كان ينبغى له أن يقبل وساطة بين الدولة وجماعة الإرهاب، واستمرت فى حربها على الجماعة الإسلامة إلى أن نجحت فى تجفيف منابعها المالية، وقطعت عنها إمدادات السلاح، ولم تجد الجماعة بداً، بعد أن خاب مسعاها، من أن تعلن من جانب واحد وقف كل صور العنف وعزمها على مراجعة أفعالها وأفكارها ومناهجها. وبالفعل تمت المراجعة التى انتهت بتخطئة الجماعة لكل جرائمها، بما فى ذلك العدوان على السياحة والأقباط واغتيال الرئيس السادات وسرقة محلات الذهب، فضلاً عن إعلان خطئها الفادح فى فهم دعاوى الجهاد والحِسبة وتكفير الدولة والخروج على الحاكم المسلم. ولا أظن أن الفرصة مهيأة الآن لقبول أى وساطة بين الدولة وجماعة الإخوان، التى أصبحت موضع كراهية غالبية الشعب، إلا أن تأتى المبادرة من جانب الجماعة نفسها، تلتزم فيها ابتداءً بوقف كل أعمال العنف والإرهاب وتخطئة كل جرائمها السابقة كما فعلت الجماعة الإسلامية، وتطلق سراح شبابها كى يعود إلى أحضان الوطن، وتؤكد عزمها على مراجعة كل أفكارها ومناهجها، وتقبل بأن تكون مجرد جماعة دعوية وطنية تحصر نشاطها داخل مصر وليست جماعة أممية، وتنتظر حكم الشعب، هو وحده الذى يستطيع أن يمنحها الغفران أو يعيد لها حقها ككيان سياسى حتى لو تم ذلك فى استفتاء عام.