يسود انطباع قوى بين النخب السياسية والجمهور والإعلاميين أنفسهم، بأن «الإعلام مسئول عن جزء كبير من الارتباك والخلل الذى تعانيه البلاد فى الوقت الراهن». وتحفل الأدبيات السياسية بالكثير من التقييمات التى ترى أن «الإعلام لا يعمل على نحو مهنى»، وتتصاعد الانتقادات فى الأوساط الشعبية لأنماط أداء إعلامية تُوصف ب«التجاوز» عادة، وب«الجنون» أحياناً. ويمكن القول إن الأوضاع الإعلامية فى مصر باتت فى حالة بالغة السوء، وإن المخاطر المترتبة على بعض أنماط الأداء الإعلامى تتفاقم باطراد، وتنذر بعواقب وخيمة، ليس على مستوى الممارسة الإعلامية، أو نسق الحريات والحق فى التعبير فقط، ولكن أيضاً على صُعد المصلحة الوطنية، والوعى الجمعى، والسلم الأهلى. فى «خريطة طريق المستقبل»، التى تم إعلانها فى 3 يوليو الفائت، تم النص على ضرورة إصدار ميثاق شرف إعلامى؛ وهو أمر يمكن النظر إليه من الجانب السياسى باعتباره محاولة لطمأنة المجال العام بأن «مشكلة الإعلام مطروحة على قائمة أولويات الإدارة الانتقالية». لكن النظر إلى هذا الاستحقاق السياسى باعتباره حلاً ممكناً وناجعاً من الناحية الفنية ليس أكثر من سراب، أو محاولة لاستهلاك الوقت، وشغل المسرح، دون إيجاد حل حقيقى لمشكلة تتزايد مخاطرها بوتيرة متسارعة، وتنحدر فى بعض تجلياتها إلى مستويات تنال من السمعة الوطنية والمكانة المستحقة للمنظومة الإعلامية المصرية. الحديث عن أن مجموعة من الإعلاميين والمثقفين والسياسيين يمكن أن تجلس فى قاعة بأحد الفنادق، ثم تعلن عن إصدار «ميثاق شرف إعلامى»، وأن هذا الميثاق سوف يمنع التجاوزات الحادة، والممارسات المجنونة، التى تجلدنا كل يوم على الشاشات، لا يخرج عن كونه نوعاً من المراوغة أو التبسيط المخل أو الخطل. لقد فعلها صلاح عبدالمقصود، ومن قبله أنس الفقى، ولم ينجحا، ولم تُحل مشكلة الإعلام. مشكلة الإعلام أكبر بكثير من مجرد إصدار ميثاق شرف إعلامى. لا يعمل الإعلام المصرى ضمن نظام إعلامى مكتمل الأركان، وتقوم هيئات سياسية أو أمنية أو بيروقراطية على تنظيمه، وتتضارب الرؤى المطروحة لإصلاحه، رغم إجماعها على صعوبة استمرار الأوضاع على النحو الراهن. ثمة توافق بين القوى الفاعلة الرئيسة فى المجال الإعلامى والسياسى على ضرورة إيجاد حل لمشكلة الإعلام، وهذا الحل لن يأتى إلا من خلال بناء نظام إعلامى على قاعدة توازن الحرية مع المسئولية، لكن خريطة الطريق نحو إعادة بناء هذا النظام تبدو مفقودة أو مختلف عليها بصورة حادة. سيكون العمل على إعادة بناء النظام الإعلامى المصرى فى المرحلة المقبلة ضرورة مهنية، ومصلحة وطنية، ومطلباً أخلاقياً، خصوصاً أن بعض أنماط الأداء اتخذت منحى تحريضياً أو مثيراً للفتن. وستكون عملية إعادة البناء حساسة وشاقة للغاية، لأن فرض أى قيود على المجال الإعلامى فى ظل النظام الانتقالى الحالى، أو النظام الديمقراطى المنتظر، سيكون محل رفض وتشكيك كبيرين. كيف يمكن إعادة بناء النظام الإعلامى عبر عملية تشاركية ذات طابع ديمقراطى، للوفاء باستحقاقات المصلحة المهنية والوطنية من جانب، وعدم التصادم مع الحريات من جانب آخر؟ هذا هو السؤال الذى يمكن أن تشكل «المفوضية الوطنية للإعلام» محاولة منطقية للإجابة عنه. يجب أن يُصدر الرئيس قراراً بإنشاء مفوضية للإعلام، تكون معنية بالعمل على إعادة بناء النظام الإعلامى المصرى، بشكل يضمن التعدد، والتنوع، وتوازن الحريات مع المسئوليات، وتفادى خطورة بعض أنماط الأداء الإعلامى المنفلت. ويجب أن تشمل مهام تلك المفوضية اقتراح، وطرح، وبلورة، وبناء التوافق، وصياغة القوانين اللازمة لتكوين الهيئات المعنية بإصلاح المجال الإعلامى، وفق رؤية الإصلاح. إذا أرادت السلطة الانتقالية الراهنة إصلاح المجال الإعلامى حقاً، فعليها إصدار قرار بإنشاء المفوضية الوطنية للإعلام، لتختص بما يلى: - اقتراح قانون إنشاء نقابة الإعلاميين، أو جسر الفجوات بين المشروعات المقدمة من قبل زملاء إعلاميين مهمومين بالمهنة لإنشائها، وبناء التوافق على القانون، والعمل على تسهيل صدوره. - المساهمة مع نقابة الإعلاميين المزمع إنشاؤها، والجماعة الإعلامية المعنية، فى تطوير ميثاق شرف إعلامى، وبناء التوافق المهنى والمجتمعى عليه، والعمل على إصداره. - اقتراح، وبناء التوافق على قانون إنشاء «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام»، المنصوص عليه فى المادة 211 من الدستور. - اقتراح، وبناء التوافق على قانون إنشاء «الهيئة الوطنية للصحافة»، المنصوص عليها فى المادة 212 من الدستور. - اقتراح، وبناء التوافق على قانون إنشاء «الهيئة الوطنية للإعلام»، المنصوص عليها فى المادة 213 من الدستور. - بناء التوافق على قانون «الحق فى تداول المعلومات»، والعمل على إصداره، وفقاً للاعتبارات التى تحددها المادة 68 من الدستور. - اقتراح، وبناء التوافق على خطط إصلاح مسارات المؤسسات الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة. ويجب على هذه المفوضية، فى حال إنشائها، أن تعمل من خلال التنسيق والتعاون الدائمين مع كل من وزارة الإعلام، والمجلس الأعلى للصحافة، ونقابة الصحفيين، ومنظمات المجتمع المدنى العاملة فى مجال الإعلام وحرية الرأى والتعبير، وكليات الإعلام ومعاهده فى الجامعات المصرية، والجماعة الصحفية والإعلامية، ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها، والقوى السياسية والاجتماعية والشبابية والثورية المهتمة بقضية الأداء الإعلامى وتطويره، وممثلين عن القطاعات المختلفة من الجمهور. تلك هى الطريقة الوحيدة التى يمكن من خلالها إعادة بناء النظام الإعلامى المصرى، وخلق معايير أخلاقية ومعنوية يمكن أن تحد من الانفلاتات المريعة فى الأداء، من دون الجور على حرية الرأى والتعبير. أما إصدار وثيقة تسمى «ميثاق شرف إعلامى» من دون أى آليات ملزمة لتطبيقها، أو هيئة أو نقابة تعمل على تفعيلها، فليس سوى تسويف وإهدار للوقت. مفوضية للإعلام.. أو كفوا عن الكلام.