الجميع يطالبون الآن المشير السيسى، رغم أنه لم يعلن بعدُ ترشيحه لمنصب رئيس الجمهورية، بإعلان برنامجه للحكم، وتحديد أولوياته وأهدافه، وبيان خطته لإقامة دولة مدنية قانونية نص عليها الدستور الجديد، ينتفى فيها كل صور التمييز بين المواطنين، تصادق من يصادقها وتعادى من يعاديها، وتحافظ على الأمن والسلم الدوليين، وتركز جهودها على تحسين جودة حياة المصريين، واحترام حقهم فى حكم ديمقراطى يلتزم أحكام الدستور والقانون، ويرعى العدل الاجتماعى، ويصون حقوق الإنسان، وتنهض فيه الدولة على حكم المؤسسات، ويتفرغ فيها الجيش لمهامه الاحترافية، لا شأن له بالسياسة، ينوّع مصادر سلاحه ويحسن تدريب أفراده وقواته على مواجهة تحديات الأمن القومى لمصر. فى الشمال بحيث لا يخضع لضغوط غربية يمكن أن تتكرر، تستهدف إضعافه وخنقه، تمنع عنه إمدادات السلاح وقطع الغيار فى الوقت الذى تريد! وفى الشرق بحيث يمتنع أن تكون سيناء ملاذاً لجماعات الخونة والخوارج وتنظيمات القاعدة والسلفية الجهادية والإخوان الذين يحاربون الجيش المصرى، ويسعون إلى استنزاف قواه خدمة لمصالح إسرائيل والولايات المتحدة فى الإبقاء على جيش الدفاع الإسرائيلى اليد الطولى فى الشرق الأوسط، تهيمن وتسيطر وتحكم أمن المنطقة بعد أن تمزق الجيشان السورى والعراقى. وفى الجنوب حيث تتعرض العلاقات المصرية السودانية لمؤامرة كبيرة تخطط لإفساد العلاقة بين الشعبين الشقيقين، وفى إثيوبيا حيث يسيطر على حكام أديس أبابا هوس مجنون بعداء مصر وتهديد أمنها المائى، وحرمانها من الحد الأدنى لحقوقها التاريخية فى نهر النيل، يشجعهم على ذلك انشغال مصر على امتداد ثلاثة أعوام بأوضاعها ومشاكلها الداخلية! وأخيراً فى أقصى الغرب بعد أن أصبحت الحدود الليبية مصدر إزعاج لأمن مصر الوطنى بسبب فوضى تهريب السلاح! ولا أظن أن المطلوب من برنامج المرشح السيسى وعوداً قاطعة بتغيير أحوال المصريين بين يوم وليلة، تعد الجميع بالسمن والعسل! وتقضى على مشكلات البطالة فى غضون شهور معدودات! وترقى بأوضاع الخدمات الصحية والتعليمية فى غمضة عين! لأن مصر دولة فقيرة الإمكانات والموارد، لم تحسن بعدُ استثمار طاقاتها البشرية الضخمة، استمرأ حكامها طويلاً أن يعيشوا على معونات الخارج! وإنما المطلوب برنامج متكامل ينطوى على رؤية شاملة لأبعاد المشكلات المصرية فى ترابطها ينهض على أسس علمية، ويلتزم أهداف ثورتى يناير ويونيو، ويضمن استمرار المسيرة الوطنية وصولاً إلى أهدافها الصحيحة فى دولة مدنية قانونية حديثة. وأظن أن الخطوة الأولى فى هذا البرنامج وقف حالة التدهور التى تنزلق إليها مصر على كافة الأصعدة وفى كل المجالات، من خلال سلسلة من الإجراءات الواجبة، تجتث جذور الفساد والتسيب والإهمال، وتنظم جهود المصريين من أجل إعادة بناء دولتهم على أسس راسخة تضمن عقاب المخطئ وإثابة المصيب، والحفاظ على حريات التعبير والرأى والبحث العلمى لأنه فى غيبة هذه الحريات لا يقع تقدم ولا تتحقق الديمقراطية، مع الالتزام بالشفافية وصدق الوعد ونزاهة الأداء واحترام توقيتات تنفيذ خطط التنمية وبرامجها، والأخذ بمعايير الكفاءة، والتركيز على أولويات خدمية لا مناص من تنفيذها، أهمها معالجة مشكلة الخلط بين مياه الشرب ومياه الصرف الصحى التى أفسدت أكباد المصريين وكلاويهم فى كثير من أراضى الدلتا والصعيد، والارتقاء بجودة التعليم، وإعادة تشغيل كل القوى والمصانع العاطلة، ومحو أمية المصريين فى مشروع جاد لا يستغرق أكثر من عامين يقوم على أكتاف الشباب المصرى، والالتزام الصارم بالهدف النهائى الذى حددته خارطة الطريق، بناء الدولة الديمقراطية القانونية مع انتهاء الفترة الأولى من حكم الرئيس الجديد. وأظن أن أى برنامج شامل وجاد يتصدى لتحقيق أهداف ثورتى 25 يناير و30 يونيو فى العيش والحرية والكرامة لا بد أن ينطوى على مسئوليات واضحة تلتزم بها الدولة، ومسئوليات مقابلة يلتزم بها المواطنون ومؤسسات المجتمع المدنى، بحيث يتحقق الحكم الرشيد الذى يقنن عقداً جديداً بين السلطة والمواطنين، تنتفى منه كل صور الإذعان والمساس بكرامة المواطن، وتلتزم فيه الحكومة بأن تكون خادماً للشعب الذى يدفع رواتب البيروقراطية المصرية من ضرائبه.. باختصار فإن غاية ما نريده من برنامج المرشح السيسى أن يعيد رتق الثقوب الواسعة التى تمزق شراع السفينة المصرية وتعطل انطلاقها، ويعيد تصويب دفتها فى الاتجاه الصحيح، ويضع الدولة المصرية على مسار جديد يمكّنها من حسن استثمار طاقتها وقدراتها ورفع كفاءتها الإنتاجية إلى مستوى المعايير الدولية، والحرص على مصالحة شبابها وحشدهم لمهام البناء. وربما نفتقد المؤشرات الواضحة على طبيعة حكم السيسى إن تحقق له الفوز فى انتخابات الرئاسة المقبلة الذى يتوقع معظم المراقبين أن يكون فوزاً ساحقاً، تتجاوز فيه نسبة الحضور إلى صناديق الانتخاب 70% على الأقل، لكن برنامج السيسى باليقين لن يستنسخ نظام مبارك الذى أسقطه الفساد والإصرار على توريث الحكم، ولن يعيدنا إلى أيام يوليو الأولى عندما كان للجيش ممثل فى كل مصلحة ووزارة، ولن يكون نسخة طبق الأصل من نظام عبدالناصر الاقتصادى الذى أهدر دور القطاع الخاص فى مشروع التنمية ولم يوازن بين قدراته وطموحاته، أو صورة مستنسخة من حكم الرئيس السادات الذى هادن جماعات الإرهاب إلى أن كبر الوحش على صاحبه وقتله، لأن السيسى أكثر معرفة بطبيعة عصره، يدرك حدود استخدام القوة ويعرف مخاطر الإفراط فى استخدامها، ولأنه أكثر إدراكاً لأحوال المصريين الراهنة الذين يتوقون إلى عودة الأمن والاستقرار بعد أن أعيتهم الفوضى على امتداد ثلاث سنوات، لكنهم يرفضون ابتزاز جماعات الإرهاب والرضوخ لمطالبها. يريد المصريون من السيسى أن يستمر على نهجه، ودوداً متواضعاً مثلما شبّ ودرج فى حى الجمالية، جسوراً فى الإصلاح لا ينافق الشعب ولا يخاف حسم القرار، صبوراً واسع الصدر تجاه شباب الثورة، يمدّ لهم خيوط الحوار ويتفهم أسباب إحباطهم، ويعطيهم الأمل والثقة فى المستقبل، يؤثر المصالحة على الصدام كما فعل مع الرئيس المعزول وجماعته، عندما عرض عليه الاحتكام إلى انتخابات رئاسية مبكرة تنهى الأزمة إيثاراً للسلامة، لكن الرئيس المعزول أخذته العزة بالإثم، وراح يهدد بعظائم الأمور فى صيحته الخنفشارية الكبرى (سوف أفعل وها أنا أفعل)! ليس المطلوب من السيسى أن يرفض المصالحة أو يطلبها، لأن المصريين لم يخطئوا ولم يرتكبوا إثماً عندما رفضوا طغيان جماعة الإخوان المسلمين، لكن واجبه أن يُبقى على أبواب المصالحة الوطنية مفتوحة لا يغلقها إن بادرت جماعة الإخوان إلى طلب المصالحة وأعلنت التزامها بوقف كل صور العنف والإرهاب ونفذت هذا الالتزام على مرأى ومسمع من العالم أجمع، وعلى العكس فإن المطلوب من السيسى ألا يفرط فى حكم القانون ولا يهدر الضمانات المطلوبة لتحقيق أمن الوطن واستقراره، ولا يمنح عفواً لمن لا يستحقون العفو، وإنما يقبل عودة كل من لم يرتكب جريمة فى حق وطنه وليس على يديه آثار دماء مصرية، وكل من يملك شجاعة مراجعة أفكاره ورؤاه.