حسنٌ أن عادت رئيسة المفوضية الخارجية لشئون الاتحاد الأوروبى كاترين أشتون من رحلتها الأخيرة لمصر بخُفىّ حنين. لم تنجز شيئاً ذا بال فى القضية التى من أجلها زارت القاهرة ثلاث مرات فى غضون أشهر قليلة تدفعها رغبة أمريكية ملحة، لعلها تنجح فى تحقيق أى من الهدفين الأساسيين لمهمتها، الإفراج (أولاً) عن قادة جماعة الإخوان المسجونين بأمر من النائب العام، رهن التحقيق فى قضايا يصل بعضها إلى حد الخيانة، لأن المحاكمات سوف تؤدى إلى المزيد من تعقيد المواقف، خاصة أن هناك أدلة قاطعة الثبوت فى جرائم خطيرة تم تحقيقها بالفعل، ومحاولة إقناع الحكم فى مصر بالامتناع عن حظر أنشطة الجماعة بقوة القانون أو سطوة القرار الإدارى، ورفع القيود المفروضة على التصرف فى أموال الجماعة كخطوة أولى على طريق إعادة دمجها فى الحياة السياسية، مقابل التزام الجماعة بوقف أعمال العنف والاحتجاجات التى تمارسها الآن بهدف تعطيل مصالح العباد، وخلق حالة من الفوضى فى الجامعات، وتهديد الاستقرار الأمنى، وإثبات وجودها الفاعل رغم القبض على معظم قيادات الصفين الأول والثانى! فشلت مهمة أشتون رغم وجود أطراف قوية داخل الحكم تؤثر التوجه إلى المصالحة رغبة فى إرضاء الأمريكيين! أو خوفاً من أن يطول أمد الفوضى فى البلاد، أو بدافع استنقاذ آلاف الشباب الذين لا يزالون ينتمون إلى الجماعة ويعتقدون فى أحقية موقفها، أو التزاماً بموقف صحيح يفرض عدم الاستبعاد السياسى الجماعى لأفراد مصريين، من حقهم المشاركة ما داموا لا يحملون آثار دماء على أيديهم، ولم يتورطوا فى ارتكاب جرائم كبيرة ضد وطنهم. وما من شك أن أشتون أساءت توقيت مهمتها، حيث لا تزال غالبية الرأى العام المصرى مشحونة بغضب عميق من أعمال العنف والإرهاب والبلطجة التى مارستها الجماعة فى كرداسة ودلجا وبنى سويف والمنيا والفيوم بوحشية بالغة، وترفض فتح أبواب المصالحة مع الجماعة اعتقاداً منها فى إمكانية اجتثاث جذورها بعد أن تورطت فى جرائم قذرة، أدت إلى زيادة حدة كراهية المصريين وازدرائهم لها، خاصة أن الجماعة لم تقدم ما يثبت حسن نياتها أو يؤكد رغبتها فى تصحيح مواقفها، ولا تزال تعيش فى عالم افتراضى تطالب بعودة الرئيس المعزول ودستوره التفصيل ومجلسه التشريعى المسخ الذى لم يشارك فى انتخابه سوى 8% من المقيدين فى الجداول الانتخابية! وما من شك أن موقف الرأى العام المصرى كان ولا يزال العامل الحاسم فى إفشال مهمة أشتون، بعد الانهيار السريع فى قدرة الجماعة على الحشد، وانحسار أفعالها إلى حدود أعمال شغب صبيانية تهدف إلى تعطيل مصالح البلاد، فضلاً عن التقدم المضطرد الذى تحرزه عمليات إخلاء سيناء من بؤر المسلحين المتطرفين الذين ينتمون إلى تنظيم القاعدة، ويقظة الأمن المصرى الذى يطارد بنجاح فلول الجماعة ويصادر كل يوم المزيد من أسلحتها، وحماس المصريين لمواجهة عمليات الشغب التى تمارسها الجماعة ومطاردة أفرادها وردهم على أعقابهم، وإفشال محاولاتهم المتكررة للعودة إلى رابعة العدوية أو النهضة، وحرمانهم من أى موطأ قدم يمكن استثماره كى يصبح مقراً جديداً للاعتصام.. وأظن أن الدافع الرئيسى الذى يحرك جماهير المصريين ضد الجماعة، اعتقاد غالبيتهم الراسخ أن الجماعة خانت وطنها، وتورطت من أجل الحفاظ على الحكم فى تحالفات مشينة مع تنظيم القاعدة لكسر شوكة الجيش المصرى فى سيناء، وتحالفات أخرى أشد خطورة مع الأمريكيين، كشف أهدافها رئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات الأمريكية الجنرال هيو شيلتون، عندما اعترف أخيراً بأن بلاده خططت لمؤامرة تستهدف زعزعة استقرار مصر، ولولا يقظة الفريق السيسى الذى اكتشف المؤامرة، لكانت مصر قد تحولت إلى سوريا أخرى وتم تدمير الجيش المصرى بالكامل! ومع ذلك يظل السؤال العصى قائماً: كيف يتم التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين التى لا تزال تسيطر على عقول آلاف الشباب الذين تربوا تحت مبدأ السمع والطاعة، على حين تصر غالبية المصريين ومعظم القوى المدنية السياسية على غلق الأبواب بالضبة والمفتاح أمام عودتهم للحياة السياسية، ويلزمون الحكومة بتجفيف منابعهم المالية واجتثاث جذورهم فى ظروف جد ملائمة، تواجه فيها الجماعة شعباً غاضباً تساند مطالبه كافة مؤسسات الدولة، الجيش والشرطة والإعلام والقضاء، فى ظل متغيرات ومؤشرات دولية متزايدة، تؤكد انحسار الاهتمام الدولى بالجماعة. وأظن أن الإجابة الصحيحة عن هذا السؤال تقتضى منا التفرقة بين مصير تنظيم الجماعة ومصير أفرادها، خاصة أن التنظيم هو قدس أقداس الجماعة وعين وجودها، ولا أعتقد أن أحداً يختلف على صحة هذه القاعدة الواضحة التى تؤكد ضرورة أن تظل أبواب العودة مفتوحة على مصاريعها لأى من أفراد الجماعة لا يحمل على يديه آثار دماء، ولم يتورط فى ارتكاب جرائم كبيرة ضد وطنه، انطلاقاً من التزام الدولة القانونية المدنية بأحقية كل مواطن فى المشاركة، ورفضها كل صور الاستبعاد والعزل والعقاب الجماعى. ولا ينبغى أن نتشكك، تحت وطأة الانتصارات التى تتحقق الآن، فى صحة وسلامة هذا الموقف بدعوى أن سلوك قواعد الجماعة أكثر تطرفاً من سلوك قادتها، وأنهم يتماهون تماماً مع رؤى قادتهم ويتوحدون جميعاً حول مطالب مستحيلة التحقيق، ويؤثرون الصدام والعنف على التصالح، لأن ما نراه على سطح الأحداث الآن ليس الموقف النهائى لأفراد الجماعة، ولكنه يعكس مشكلة سيكولوجية حقيقية، سببها الخوف المتنامى داخل الجماعة من مستقبلها القادم بعد المحنة الأخيرة التى أصابتها، والقلق العميق من أن تتسبب التنازلات التى يمكن أن تقدمها الجماعة فى هذه الظروف مهما تكن طفيفة فى تصدع الجماعة وانهيارها، وظهور تيارات معارضة داخلها تطالب بمراجعة أفكار الجماعة ومناهجها وسياساتها. ولهذا السبب تتحصن قيادات الجماعة وقواعدها وراء مطالب مستحيلة، لعلها تفلت من إعصار قادم، سوف يسائل قادتها عن الأسباب الحقيقة التى استبدلت تعاطف المصريين مع الجماعة بكراهية عميقة بعد عام واحد من وجودها فى الحكم. وأظن أن هذه الظروف جميعاً تتطلب أن تظل أبواب العودة مفتوحة على مصاريعها مشمولة بضمانات واضحة لكل من لم يرتكب جرماً فى حق وطنه، أما مصير التنظيم فمشكلة أخرى يحسن معها أن تتجنب الدولة صدور قرار إدارى يحدد مصير تنظيم الجماعة يسهل الطعن عليه، لكن إعادة دمج جماعة الإخوان فى العملية السياسية لا ينبغى أن يتم نتيجة مصالحة شكلية على قاعدة تبويس اللحى وعفا الله عما سلف! لأن جماعة الإخوان ارتكبت جرائم غدر ضد وطنها تستحق الحساب والمساءلة، ولأنها تورطت فى تحالفات قذرة أضرت بمصالح الوطن العليا، تلزم الجماعة إعلان أسفها واعتذارها للشعب المصرى، وتأكيد عزمها على إعادة النظر فى برامجها وأفكارها وطرق تربيتها لشباب الجماعة التى تقوم على السمع والطاعة، وتؤكد رفضها الامتثال لأفكار الجماعة التكفيرية التى قسمت المجتمع إلى فسطاطين، فسطاط للكفر وفسطاط للإيمان، التى زرعها سيد قطب فى فكر وبنية تنظيم الجماعة، وتعلن تخطئتها لهذا النهج الذى كان وراء صدامها المتكرر مع الدولة والشعب، كما تؤكد التزامها بقواعد العمل الحزبى العلنى الذى يجرّم أى نشاط سرى، وقبولها المبدئى بمرجعية الأمة مصدراً لكل السلطات، وتأكيد استعدادها بأن توفق أوضاعها مع دستور جديد يؤكد على عدم قيام أحزاب سياسية على أسس دينية، وإعلان التزامها بعدم استخدام منابر المساجد لترويج دعاوى حزبية وسياسية. وليس مطلوباً من الدولة المصرية كى يلتزم تنظيم الجماعة بهذه الشروط أن تفتح المعتقلات أو تلجأ إلى أساليب العقاب الجماعى، فقط تعلن الدولة شروطها بوضوح، وتترك لقادة الجماعة فرصة أن يتدبروا مستقبل تنظيمهم، ويطوروا أوضاعهم فى ظل دولة قانونية مدنية يخضع فيها الجميع لحكم القانون، أو تتركهم فى العراء يواجهون عواصف فكرية ونقدية سوف تهب لا محالة على الجماعة، تضرب أساس التنظيم القديم بحثاً عن مستقبل أفضل يحيل الجماعة إلى مؤسسة ديمقراطية تقبل بالأمة مصدراً لكل السلطات، وتلتزم بديمقراطية العمل الداخلى وعلانيته بدلاً من الإذعان والسمع والطاعة.