قارة أفريقيا، على الرغم من كونها الأفقر، فإنها تحتوي علي الإحتياطي الأكبر للفوسفات في العالم، حيث يتواجد هذا الخام بكميات كبيرة جدا في العديد من الدول الأفريقية مثل المغرب وتونس ومصر وتوجو ونيجيريا، وغيرها. لقد قدر أحتياطي خام الفوسفات العالي الجودة (الذي يحتوي علي اكبر من 28% خامس أكسيد الفوسفور) في عام 1990 بحوالي 56.3 بليون طن في المغرب وحدها، بينما كان تقدير أحتياطي مصر حوالي 3 بليون طن، ولتونس نفس القيمة تقريبا. وقارة أفريقيا، هي أيضا القارة الوحيده التي يزيد إنتاجها للفوسفات ،والذي يبلغ 43.1 مليون طن سنويا ،عن معدل الأحتياج لهذا الخام والذى يبلغ 26.8 مليون طن سنويا، وفقا لإحصاء عام 2010. كما أنها القارة الأقل قدرة علي تصنيع الفوسفات. وتأتي أهمية صخور الفوسفات من إستخدامه في تصنيع حمض الفوسفوريك، والذي هو سلعة إسترتيجية للصناعات الغذائية ولصناعة السماد. لذلك فإن سعر خام الفوسفات يتغير متوافقا مع تغير مؤشر سعر الغذاء العالمي الذي تصدره منظمة الفاو (منظمة الغذاء العالمية). ففي عام 2008 عندما صعد مؤشر سعر الغذاء إلي أعلي مستوياته، أرتفع سعر خام الفوسفات ليصل إلي مستوي غير مسبوق زاد عن 350 دولار للطن. وعلي الرغم من أن سعر الخام يهبط بصورة شبه منتظمة منذ 2008 وحي الأن، حتي أنه وصل إلي أقل من 80 دولار في يناير 2014، إلا أنه ليس من الصعب التنبؤ بإرتفاع السعر مجدداً، وربما إلي مستويات غير مسبوقة. هذا ليس رجماً بالغيب، ولكنه إستفراء لواقع يحدثا أن الأحتياج لحمض الفوسفوريك ولأهم منتجاته، وهو سماد ثنائي أمونيوم الفوسفات ،في تزايد مستمر، وأن خامات الفوسفات الجيدة والسهلة الإستخراج في تناقص مستمر، فهي موارد غير متجددة، ونضوبها يعني بداية حقبة جديدة من إرتفاع أسعار الغذاء. هل تستطيع قارة أفريقيا والتي تملك أكبر أحتياطي للفوسفات في العالم، أن تلحق بركب التصنيع، أم أنها ستكتفي بدور المصدر لخامات أولية، وهذا هو ما تفعله مصر حتي الأن. منذ أن صدر لي أمر تكليف بالعمل معيداً في كلية العلوم بجامعة القاهرة، وحتي لحظات كتابة هذه السطور، وشغلي الأساسي هو صخور الفوسفات وما يصاحبها، في مصر وغير مصر. كان موضوع رسالتي للماجستير وايضا للدكتوراة عن الفوسفات المصري. وكلما تعمقت في دراسة هذه الخامات الإقتصادية، بل وأيضا الإستراتيجيية، كلما إزددت قرباً وفهماً لخباياها. أزحت الستار في عام 1974 ،عن القيمة المضافة لخامات الفوسفات في هضبة أبوطرطور، متمثلة في المحتوي العالي جدا من الأرضيات النادرة، الغالية الثمن والتي تستخدم في الصناعات التقنية الحديثة. ولكن لا مجال للحديث عن القيمة المضافة، إذا كنا لن نصنع الفوسفات محليا. القيمة المضافة والمتمثلة في اليورانيوم والأرضيات النادرة والفلور وغيرها، لن يحصل عليها إلا من يصنع الخام. وحتي يدرك القارئ العزيز ما أهدف إليه ،أقول أنه في عام 2013 عندما كان سعرطن خام الفوسفات في السوق العالمي حوالي 100 دولار أمريكي، كان سعر طن سماد ثنائي أمونيوم فوسفات ،والذي يصنع من خام الفوسفات حوالي 1200 دولار. إذآ التصنيع يعني ببساطة ربح أعلي وتشغيل للعمالة أكثر وتطور تقني أسمي وإستفادة من النواتج الجانبية، أو ما يعرف بإسم القيمة المضافة. لا شك أن تقنية التصنيع هي سر الأسرار للشركات المتميزة في هذا المجال، ولا تثريب عليهم، فلقد أنفقوا الجهد والمال في تطوير صناعاتهم. أيها السادة لن ينصلح لنا الحال بغير الإعتماد علي الذات ،وتطوير منهج صناعي من إبداعات العقول المصرية. لماذ كل هذا الخوف من الفشل، وهل يأتي النجاح إلا بعد تجارب غير ناجحة، أقول أيضا للتذكرة أن اليورانيوم الذي أستخدم في صناعة أول قنبلة نووية في التاريخ ،والتي ألقتها الولاياتالمتحدة علي هيروشيما في اليابان، هذا اليورانيوم كان مستخلصا كقيمة مضافة لصناعة حمض الفوسفوريك لخامات فوسفات من الكونغو الإفريقية. وكذلك فإن اليورانيوم الذي أستخدم في صناعة أول قنبلة نووية سوفيتية كان مستخلصاَ من الطفلة السوداء ،التي عادة ما تصاحب الفوسفات ،من دولة أسيتونيا في شمال أوروبا. إن الدولة المصرية، كانت وما زالت، تفضل بيع الخام علي الدخول في مغامرة التصنيع، فيما عدا النذر القليل في مصنعي أبو زعبل وكفر الزيات ،حيت يتم تصنيع حوالي 150 الف طن سنويا، دون الإهتمام بأي قيمة مضافة. ما يتم تصنيعه الآن لا يتعدي 5% من مجمل الخام المستخرج والذي يتم تصديره، بغير معالجة أو بعض المعالجات المحدودة. هذا الوضع يذكرني بنفس سلوك الإدارة المصرية التي تؤثر بيع القطن الخام علي تصنيعه. لكن الوضع بالنسبة للفوسفات مختلف، لأنني أشعر أننا لانعطي هذه الخام ما يستحقة من أهتمام. أتذكر عندما كنت مشغولاً بأبحاث الماجستير، وكنت أقيم في الجبال لفترات من الزمن ،وأتعامل بطبيعة الحال مع أهلنا في القري الجبلية النائية في صعيد إدفو وإسنا، كان أغلب العمال في المناجم من أهل هذه القري النائية. وتصادقت وأكلت وشربت مع الكثير منهم. ذات يوم لاحظت أن البيت الصغير الذي بناه رئيس العمال لنفسه في موقع العمل، مصنوع من الحجر الرملي المأخوذ من جبال بعيدة نسبياً عن موقع البيت، بينما يتجمع حولة حجارة الفوسفات التي تم إستخراجها. كان من المنطقي أن أستفسر، لماذا ترك طوب الفوسفات الجاهز شكلا وصلابة وجمالاً ،وهو الأقرب ليدهِ، وآثر أن يتكلف جمع الحجر الرملي الأقل صلابة والأقل جمالاً من مسافة غير قريبة. دهشت، وما زلت، للرد الذي جاء عفو خاطر وسريع، إنت عايزني أبني بيتي بطوب نجس؟ إذاً حتي من يأكل عيشه من العمل في هذه الخامة يعتقد أنها "نجس"، ذلك لأنها تحتوي علي فضلات عضوية حيوانية. أو ربما لأنها عندما تحتك بجسم صلب تنتج رائحة مثل رائحة الثوم وهي رائحة غازات الفوسات التي تتحرر نتيجة الإحتكاك. العامل عندما يكسر الخام في المنجم يستشعر هذه الرائحة. الإعتقاد أن صخر الفوسفات هو صخر "نجس"، أفهمني سبب عدم إستعانة أجدادنا الفراعنة بهذه الصخور الصلبة والجميلة الشكل والأهم أنها تتواجد في صورة طبقات منتظمة يصل سمكها حوالي المتر، وبذلك كانت تكفي لسد الفجوة الرئيسية في البناء المعماري للمعابد ،وهو السقف. لابد أن المهندس الفرعوني كان، هو أيضا، يعتقد أن هذه الصخور سوف تنجس المعابد المقدسة. لكني أستطيع أن اَجزم أن خامات الفوسفات غير نجسة ، بل إن بها خير كبير للأمة المصرية، وأن علينا أن نصنعها، فالعقول المصرية قادرة علي هذا التحدي. *الأستاذ المتفرغ بكلية العلوم بجامعة القاهرة