تناول طعامه المتواضع في البلكون، تأمل تمثال طلعت حرب القابع أمامه في الميدان، والذي يتأمل الشارع المقابل بجدية وشرود تام، ملطخ بعبارات سباب ومرقع بملزقات "نعم للدستور".. ضحك بصوت عال، دوت الضحكة في أرجاء شارع خال تمامًا من مظاهر الحياة، إنها السادسة صباحًا، حين تصبح القاهرة مدينة هادئة وساحرة قبل أن تدب فيها الحياة مرة أخرى، فتبدأ الصراعات التي لا تنتهي ولا تحتمل. كانت ساعته البيولوجية توقظه دائمًا في السادسة والنصف، فيتناول فطوره ويرتدي ملابسه ليتمشى قليلًا في الشوارع الخالية قبل الذهاب إلى عمله.. وقف شريدًا أمام التمثال، مازال الشارع خاليًا، بدأ حديثه: "عارف أنا باتكلم معاك ليه؟ عشان مش لاقي حد تاني يفهمني، حتى مراتي مبقتش مستحملاني، حقها برضوه أربعين سنة جواز مش قليل!.. لسه فاكر أيام ما أبويا كان بياخدنا نركب الأتوبيس النهري، كان النيل أزرق بصحيح وقتها، مش اللي عامل نفسه النيل دلوقتي ده!". ويتابع "مكنش حد يجرؤ يكتب على التماثيل والحيطان كده، كانت الناس تعرف الأصول بقى.. وقت الثورة كنت أسمع هتاف المسيرة من دول من أوضة النوم، أخد بعضي وأنزل معاهم أشجعهم بحسى.. إحسان تقولي: يا راجل اعقل إنت فاكر نفسك عيل، مسمعلهاش وأفضل طول مانا ماشي أحكيلهم عن مصر الحلوة بتاعة زمان، كانوا يسمعوني وهما مبسوطين أوي ومش مصدقين". "عيال تفتح النفس، وعي وثقافة وتضحية، مش عارف ليه العملية واقفة معاهم لحد دلوقتي، كل ما يخلصوا من واحد يطلعلهم عشرة!.. بدعيلهم وأنا بصلي الفجر والله.. نفسي أشوف بلدي بيترد فيها الروح قبل ما ربنا يفتكرني، أحسن خلاص بقت كل حاجة تسد النفس وتوجع القلب.. مصر ليها في دماغي صور حلوة أوي، بس كلها قديمة عليها تراب، إنما دلوقتي خلاص كله راح". وقال إيه تقولك: مشربتش من نيلها.. جربت تغنيلها؟.. أهو أنا بقى غنيت لها وكلمتها واتحزمت ورقصتلها ومفيش فايدة.. وبعدين نيل إيه ده؟ هي عاد فيها نيل!. دقت الساعة السابعة وبدأ بعض المارة في الظهور، فتحرك من أمام التمثال في بطىء، ظل يتمتم بصوت مسموع وهو يضرب كفًا على كف "خلاص كله راح.. كله راح"، سمعه أحد المارة فتأمله باستغراب، ثم همس في سره "لا حول ولا قوة إلا بالله".