إن أحد أهم أسباب الحروب والصراعات السياسية المرضية الخارجة على قواعد التفكير الطبيعى، يكمن فى اختلال بنية العقل، وعدم قدرته على رؤية نفسه ورؤية الآخرين، وانعكاس قائمة الأولويات. وهذا يرجع فى أحد جوانبه إلى التعليم القائم على الحفظ والتلقين، وليس ضبط وتنمية طرق التفكير. وفى ظنى أن تخلف مناهج التعليم أحد أهم أسباب مشكلة الإرهاب بجوار الأسباب: السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ فمناهج التلقين تصنع عقولا مغلقة. والحلول متعددة بتعدد الأسباب، وهى نوعان: حلول عاجلة للقضاء على الأعراض الخطرة التى تهدد استقرار الوطن، وحلول استراتيجية بعيدة الأمد، وما يهمنى فى هذا السياق هو الحل الاستراتيجى على الأمد البعيد، وهذا لن يحدث بدون تغير مفهوم الأمن القومى. ولا شك عندى فى أن أى تخطيط استراتيجى لمستقبل الأمن القومى المصرى، يجب أن يضع التعليم على قائمة الأولويات، وأن يأخذ فى الاعتبار البعد السكانى، والاجتماعى، والتنموى، على مستوى الوطن وعلى مستوى كل محافظة. إن الأمن القومى أمر يتجاوز بكثير طاقة ووظيفة وحدود نظرية الأمن التقليدية؛ لأن مفهوم الأمن القومى لم يعد مقصوراً على حماية الأرض من التهديدات الخارجية، فمع تطور مفهوم قدرة الدولة اتسع مفهوم الأمن القومى ليشمل القدرة الشاملة للدولة والمؤثرة على حماية معتقداتها وقيمها وأراضيها ومصالحها السياسية والاقتصادية والاجتماعية من التهديدات الخارجية والداخلية. بل يمكن القول إن الأمن القومى تجاوز مفهوم الحماية بمعناها الواسع، إلى مفهوم التنمية الشاملة.. يقول روبرت ماكنمارا Robert McNamara وزير دفاع الولاياتالمتحدةالأمريكية ورئيس البنك الدولى الأسبق، فى كتابه (جوهر الأمن): «الأمن عبارة عن التنمية، ومن دون التنمية لا يمكن أن يوجد أمن، وأن الدول التى لا تنمو فى الواقع، لا يمكن، ببساطة، أن تظل آمنة». وهذا التعريف الذى يركز على تطور مفهوم الأمن القومى وشموله لمختلف الأبعاد التنموية، يجرنا مباشرة إلى التعليم والبحث العلمى كقاطرتين لتحقيق الأمن القومى بمفهومه التنموى الشامل، وباعتباره تنمية علمية وعسكرية واقتصادية واجتماعية، تنمية للموارد والقوى المختلفة، تنمية للدولة والمجتمع والثقافة، تنمية للعلاقات الخارجية والسياسة الداخلية. وهنا يبرز الدور الريادى والمسئولية القومية للمدارس والجامعات. والعلاقة بين التعليم والأمن بهذا المعنى أكدها جون ديوى؛ فالتعليم عنده هو مجموعة العمليات التى يستطيع بها المجتمع أو زمرة اجتماعية كبرت أو صغرت أن تنقل سلطانها أو أهدافها المكتسبة، بغية تأمين وجودها الخاص ونموها المستمر، ولذا فإن التعليم هو الحياة عند «ديوى». لا شك فى أن تقدم مصر الحديث ومستقبل أمنها القومى مرهون بقدرتها على تجديد نفسها على أساس من التخطيط العلمى الرصين؛ من أجل تحقيق مشروع مجتمعنا فى ترسيخ قيم التراث والحداثة وتوسيع مجالات حقوق الإنسان، وعبور الهوة المعرفية العلمية بيننا وبين العالم المتقدم، وتنشئة شخصية وطنية قوية مستقلة كخطوة أساسية وجوهرية فى طريق بناء الدولة المصرية القوية؛ حيث بدأ المصريون يفكرون لأنفسهم لأول مرة فى التاريخ الحديث بعقل جديد، وروح مستقلة؛ رغبة فى مستقبل أفضل. ومن هنا، فلابد أن تكون النّظرة المستقبليّة هى الحاكمة لمسيرة التعليم، لا سيما أن من نعلمهم، يتخرجون فى المستقبل وليس الآن. وهذا الإنسان المستقبلى يحتاج إلى نوعية جديدة من التعليم تقدم له أسلوب حياة وطريقة عمل.. نوعية جديدة تعتمد على التعلم بدل التعليم، والبحث بدل النقل، والحوار بدل الاستماع، والقدرة على الاختلاف بدل التسليم المطلق بالأفكار الجامدة التى تصنع الإرهاب. ومع إعادة بناء الدولة المصرية، نجد التحديات تختلف، والمتطلبات تتفاوت. فالتحدى القومى أصبح هو بناء إنسان مصرى جديد وتحقيق التنمية وتأسيس دولة الديمقراطية. ولذا فالمرحلة الراهنة تطرح تحديات عديدة: كيف يمكن تركيز الاهتمام فى التعليم على طرق التفكير وكشف الحقائق وتأسيس روح الابتكار، وليس التلقين والحفظ أو السمع والطاعة.. من أجل توسيع المعارف البشرية، وتعزيز قدرة الطلاب والباحثين على استغلال هذه المعارف لتحقيق الأهداف الحيوية للدولة المصرية باعتبارها أحد أهم تعريفات الأمن القومى؟ وما السبيل لتقليل الفجوة بين الفقراء والأغنياء فى طبيعة وفرص التعليم؟ كيف نوفر المناخ الأمثل لجودة العملية التعليمية؟ وكيف يمكننا أن نصل بخريجينا إلى المستوى العالمى الذى يؤهلهم إلى الدخول إلى سوق العمل من أوسع أبوابه؟ كيف يمكن التغلب على مثلث عوائق البحث العلمى: التمويل، والمعامل المجهزة، والإدارة؟ إن الإجابة على هذه التحديات لن تكون بمجرد التمني، وإنما برؤية واضحة لمستقبل التعليم والبحث العلمي، وبفكر جديد يعكس فلسفة جديدة للأمن القومى، عن طريق تعليم يمد المجتمع المصرى بكوادر وطنية فنية مدربة، وصولاً إلى مستويات تنافسية عالمية.. تعليم يقوم على استحداث مناهج جديدة قائمة على أسس النمو فى تصميم المشاريع البحثية، والتميز فى أداء الباحثين والطلاب، والتطور فى النظام الإدارى، والبحث فى قضايا الدولة، وتشخيص الاحتياجات. فقد أصبحت سمة العلم الجديدة هى «التطبيق» أو بلغة الاقتصاد «العائد الفورى». والأهم من هذا كله هو تغيير طريقة التفكير عند المواطن، وبناء شخصية مسئولة.. واعية.. حرة.. ناقدة.. وقادرة على استثمار ذلك كله ومراجعته وتطويره من أجل نهضة حقيقية عميقة الجذور متأصّلة المنبت، فمؤسسات التعليم -من الحضانة إلى الجامعة- ليست مجرد مؤسسات لنقل المعارف إلى أبنائنا، بل مؤسسات وطنية نهضوية يقع العبء الأكبر عليها فى بناء شخصية المواطن باعتباره جوهر الدولة، وأساس الأمن القومى، لا باعتباره إرهابيا يكفر كل من حوله ويستحل دمه!