أشتاق لزمن جميل لم أعشه ولن أستطيع، ولكني أشتاق إليه بكل ما فيه، وكم وددت أن أكون جزءًا منه. ذلك الزمن، وتلك الحقبة الرائعة، رغم ما فيها من أحداث وظروف ولكنها كانت حقًا رائعة، أو على الأقل هي كذلك في نظري، ويكفيها أن المصريين وقتها كانت تظلهم فيها قيم جميلة، انقرض الكثير منها الآن، حيث طغت على حياتنا المظاهر والماديات، وفقدنا جوهر الروح والإنسانية. ومع صباح كل يوم جديد يظهر فيه اختراع جديد، نتجرد تدريجيا من أنفسنا لنصبح جزءًا أصيلًا من ذلك العالم الجاف البارد رغمًا عنا. ألم يصادفك يومًا، اعتلت وجهك فيه ابتسامة تعجب، وأنت تشاهد أحد الأفلام القديمة، وترى كيف كانت الحياة وقتها! وكيف كان الناس يخاطبون بعضهم بألفاظ لم يعد لها وجود فى قاموس حياتنا، فتضحك عندما تسمع من يحيي الآخر ويقول له "سعيدة" فيرد "سعيدة مبارك". ألم تتعجب كيف كانت أخلاقهم وأذواقهم وأفعالهم راقية، مهذبة، قيمة، وكيف كان الصغير يبجل الكبير، والكبير يعطف على الصغير، وكل يلزم حدوده ويعرف واجباته وحقوقه، أما أنا فلم أتعجب من كل ذلك، فحسبهم آنذاك أن تهذبت أذواقهم بأشعار أمير الشعراء أحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وطربت آذانهم لأصوات أم كلثوم وعبد الوهاب، وهام خيالهم وأبحر فى روايات يوسف السباعي ونجيب محفوظ، وغازلت عقولهم أفكار العقاد وطه حسين، وما هؤلاء إلا نماذج، وقليل من كثير، أما الآن فإني أتحسر على ما وصلنا إليه من التردي الأخلاقي والفني والأدبي، اللهم إلا قليل ممن لازالوا يصارعون لكي يقدموا لنا أعمالًا راقية. أصبحنا الآن نعيش في زمن "أوكا وأورتيجا والتت وهاتي حته يا بت"، فقدنا رهافة الحس وجمال المعاني وروعة الأحاسيس والمشاعر الراقية، وصار هذا التيار يجرفنا جرفًا، وصار بعضنا فقط ممن لازالوا يتشبثون ببقايا هذا الزمن الجميل، هم الذين يبحثون وسط ركام هذا الضجيج المتناثر من حولنا عن معنى وقيمة وهدف ومغزى. وأسأل نفسي، ترى هل كان أهل هذا الزمان يرضون أن يبادلوننا زمانهم بزماننا؟ أم هل نستطيع نحن أن نكون مثلهم؟ بدلًا من استجلاب مآثرهم وحكمتهم للتغني بها لنروي ظمآ نفوسنا التواقة؟.. أسئلة تهيم حائرة في مخيلتي، تبحث عن مجيب ولكني أبدًا لن أفقد الأمل في أن يصبح زماننا جميلا، وأن يبدأ كل منا بنفسه، وألا يحقر عملًا يقوم به مهما كان صغيرا لجعل هذا الزمان وهذا العالم جميلا. وإن لم يكن لنا فليكن كذلك لأولادنا وأحفادنا، ولنترك لهم شيئًا رائعًا ومحترمًا يعيشون به. وليكن ذلك الشيء هو العلم النافع والخلق الكريم والقيم الراقية. فلماذا لا تبدأ ياعزيزي بإحياء ما ترك وانقضى من أخلاق ومبادئ ومعانى سامية، وأن تتعامل بها مع غيرك، حتى يعتادوا عليها وعلى أسلوبك فيتأثرون به ويقلدونه، وأن تغرسها في أبنائك منذ الصغر حتى يشبوا بها، فتصبح جزءًا من أفكارهم وعقيدتهم في الحياة، ولتصبح هى السمة السائدة في المجتمع. وقبل أن تتهمني أنني إنسانة حالمة واهمة تبحث عن المثالية فى واقع صادم مليئ بالمتناقضات والمآسي، أقول لك "لولا الأمل ما كانت الحياة"، وسأظل دومًا على أمل وتفاؤل رغم كل شيء، بأنه مرة أخرى سيعود لنا الزمن الجميل بدلًا من اجترار مرارة الحسرة عليه، والتنهد بحرقه قائلين "رحم الله الزمن الجميل".