كاتبة وإعلامية فلسطينية تعيش كآلاف الفلسطينيين خارج أرضها، تنقلت بين عدة دول إلى أن استقرت باستراليا، أبدعت عدة أعمال روائية، متغلبة على صراع تلاشى اللغة بسبب البعد عنها، وحرصت فى أعمالها على الكتابة بالصيغة التقريرية التى تناسب عملها فى الصحافة والإعلام، باحت لنا فى هذا الحوار بأن الكاتب العربى لا يجد من يهتم به، لا فى وطنه ولا فى الوطن البديل، وعن الثورات العربية الأخيرة قالت: رغم أنى متفائلة بطبعي، فإننى لا أرى أى أمل فى التغيير، وأعتقد أن هذه الثورات أتت فى الزمان الخطأ... فإلى نص الحوار: ■ماذا عن الروافد والتجارب التى شكلت وعيّ دينا سليم الإبداعى وصقلت موهبتها الأدبية؟ - أحب اكتشاف المخفى والمستور، والمضى خلف مجاهل الحياة وتخبطات الدنيا، عندما ألقى التحية على الآخر بطرق كثيرة، الاستماع إلى الآخرين والإنصات لهم بجدية، كل فرد ولد ومعه حكاية تُسرد، ثم القراءة المتنوعة، الانكشاف على الجديد، التحرر من قيود المكان، الخروج من منظومة المجتمع المنغلق على نفسه والدخول فى متاهات البحث والتنقيب التى لا تنتهى عندي، أعترف أنى أعانى من إشكالية حب الاستطلاع وحب المعرفة. ■ كيف تعمل الخبرة لصالح طرد التقليد وانتهاج طريق خاص، علمنا بأن الكثير من التجارب قد طوقتها الخبرة بميراث ثقيل وصارت كالقيد الذى يضيق على روح الكاتب وإبداعه؟ - شخصيا أستطيع التخلص من هذا الطوق الثقيل ببراعة عندما أقوم بتجزئة خبراتى على الكثير من الأعمال، وبصورة لا تضايق النص أو تتملك منه، هذه خبرة أيضا، عندما أنتقى ما يلزم من مخزونى الشخصى لكل حكاية أكتبها، ليست الخبرة وحدها التى تعمل على تبديل الأدوار، بل الانغماس فى حلم ثمين وهو البحث عن الحرية والسمو به نحو فضاء واسع يدّعم التجربة إلى حيز الوجود، ثم هى الجرأة باتخاذ القرارات الصعبة والتخلص من كل شيء يحد من النشاطات الذكية للعقل. ■ تنطلقين فى كتاباتك من مرجعية فلسطينية صرفة على عكس الكثير من الكتاب الذين انبهروا بالكتابات الغربية .. ماذا تمثل هذه المرجعية فى تجربتك؟ - أنا منبهرة بالكتابات الغربية أيضا، وقارئة جيدة لجميع أجناس الكتابة، ولا تنحصر قراءاتى فقط بلغة واحدة، بل بعدة لغات أتقنها، وهذا يساعدنى كثيرا، لكن للتجربة الفلسطينية العمق الأهم بما أنى أعيش تحت وطأة فلسطينيتى أينما حللت، فمن يعش الأحداث فهو الثرى بعطائه وممتلكاته، ومن يعش فى زمان لا يشبه زمانه فهو كمن ينام على (سطحية) تتأرجح فى الفضاء، بيدى رواية عمرها عشر سنوات، تتحدث عن فلسطين فى زمان قبل زماني، لم أستطع إنجازها حتى الآن بما يرضيني، لأنى لم أعايش تلك الفترة الزاخرة بقصص جميلة التقطتها من فم جدتى عندما كنت طفلة، والآن أحاول التقاط القليل من فم والدتى التى تقيم فى الولاياتالمتحدةالأمريكية، بعيدة عنى ولأنها بدورها كانت طفلة أيضا، اضطررت إلى البحث عن أشخاص عاشوا تلك الفترة، وأن أقرأ كتب التاريخ. ■ لماذا تتقدم المرجعية المحلية على العالمية؟ - نحن نعيش عصر التنافس، والانكشاف والاندماج، كسرنا الأطواق، هدمنا الأسوار وبدأنا نزحف بكل قوانا نحو الآخر، هذا التنافس يخلق لدى الكاتب العادي، الذى تعوّد على نمطية معينة فى الكتابة، نوعا من الاغتراب، عكس الكاتب المبدع فيحصل نوع من الاندماج الجميل، فيه تساوم مع نتاج خلاق متجدد. السبب هو أن كرتنا الأرضية أصبحت قرية صغيرة جدا، وعصر الإنترنت والفضائيات أقوى عصر تمر به الإنسانية الآن، لكننا دون أن ندرى أصبحنا مقلدين حيويين لعصر لا يشبه عصرنا، فظهرت بعض الأعمال ركيكة ورخيصة، وهذا الشيء الذى أنتقده بشدة، لكن الجميل فى بعض الأقلام التى استطاعت أن تمزج بين القلم العربى والغربى بشكل رائع ومفيد، لقد قرأت عدة أعمال محلية سيرية اعتمدت على السيرة الذاتية فى الكتابة، مليئة بمغامرات حب شقيّ، أو ممارسة الجنس مع جميلات إلخ من القصص التعبوية التى لا تروق لا لكتّاب النخبة ولا للقارئ الذكي، أخشى أنك تتحدث عن كثرة الإصدارات التى بدأت تظهر كل يوم، هذا ليس مؤشرا جيدا، بل عبئا ثقيلا على الأعمال الجيدة. ■ أنت مسكونة بالحب والجرأة، وكتاباتك تحمل الوجع والبوح الإنسانى .. ماذا تقولين فى وحشة الإنسان أمام هذا الخراب؟ - البشرية الآن تعيش الحسرة، التيه والخذلان، القلق والخوف، خاصة هذه الأيام العصيبة، وبما أن النص الذى أكتبه يطرح ذاتى المُحبة للحياة، أستطيع أن أناقش قضايا الإنسان لأنى نتاج المجتمع، أجعل قلمى مغامرا يضيف ولا يسيء، تلزمنى الجرأة وأنا أهل لها، لقد طرحت وناقشت عدة قضايا هامة، أدت بعدد من القراء، محدودى الفكر إلى الاستياء والمعارضة التى جاءت على شكل رسائل توبيخ، لكنى استطعت تغيير وجهات نظر الآخرين عندما فتحت بابا للنقاش البناء، أعتقد أننا بحاجة للبوح بأكثر من لغة تفقه أسلوب العضلات، لكن للأسف من تعوّد على لغة العضلات فلن يستطيع أن يعوّد عضلات أذنيه على الإصغاء، ربما الآخر يسمعك، لكنه لا يصغي، أتمنى لو نتعلم كيف نتعامل مع ألسنتنا بلغة (الماساج)، اللين. ■ هل تعتقدين بوجوب تلازم الوظيفة الجمالية والإنسانية بالرسالة الأدبية؟ - الأدب رسالة غير مباشرة يجمّل الوجود ويمنح الراحة لكل نفس مجروحة بحاجة إلى من يهدئ من روعها، لكن عندما يصبح الأدب وظيفة ونصيحة وإرشادا يفقد مصداقيته، لست منظرة ولا مرشدة اجتماعية عندما أكتب، (رغم أن وظيفتى قبل الكتابة مرشدة اجتماعية)، أستطيع أن أمرر رسالتى القيمة بأسلوب غير مباشر يقع فى النفوس ويترك أثرا جميلا فيها، المتلقى يستوعب الأسلوب غير المباشر. ■ هل الكتابة عندك بديل عن انتكاسات لمشاريع فردية ووطنية وإنسانية؟ - لو كل فرد منا مرّ بانتكاسة ما وكتب لطغت الكتابة على كوكبنا، لكن الأمر يختلف عندما تولد موهبة الكتابة مع الفرد الموهوب، الكتابة ليست (كتالوجا) أو (أجندة مواعيد)، الكتابة تأتينى على غرة، هى موهبة تخلق مع الإنسان المبدع دون أن يحسب لها حسابا، وعلى الآخرين قبولها أبوا ذلك أم شاؤوا، لا يستطيع الكاتب تغيير ما بطبعه وما خُلق معه من أجل إرضاء الآخرين، هؤلاء الذين يجهضون كل شيء جديد، ويعتبرون الموهبة انحرافا عن قوانين مجتمعية، وبالنسبة لي، وجدت نفسى وأنا طفلة مقيدة بشيء لم أعرفه وهو إلقاء الشعر أمام الجمهور عندما كنت فى المرحلة الابتدائية للدراسة، لقبت بشاعرة المدرسة، حيث أول قصيدة كتبتها كانت فى المرحلة الثالثة من دراستي، وعندما بدأت، لم أكن أعانى من أى انتكاسة، لكن فى مراحل أخرى كتبت يوميات وسيرتى الذاتية تعبيرا عن انتكاسات عديدة مرت على حياتى الهادئة. ■ هل تعد روايتك (الحلم المزدوج) نتاج كاتبة حالمة ترى فى طاقة الحلم قدرة على مؤازرة الحياة وإعادة الاعتبار لها؟ - ربما، لأن (الحلم المزدوج) أتى بعد انقطاعى عن الكتابة مدة طويلة، فتضاعفت أحلامي، ربما! ■ كيف استطاعت دينا سليم المحافظة على نقاء لغتها وموسيقاها العذبة فى المنفى؟ - حقيقة فى المنفى تنتفى اللغة وتتلاشى، فتضيع رويدا رويدا، الجيل الجديد الذى يولد هنا، فى أستراليا لا يتقن اللغة العربية، توجد مسألة أعانى منها كثيرا، وهى الغربة الجميلة التى تخلو من المثقفين الذين يتحدثون ذات اللغة، فيصير الجمال ناقصا، غياب المؤلفات العربية أمر منغص، البعد الجغرافى الذى يعانى منه الكاتب، فنحن منتشرون فى كل ولاية، لكن بفضل الإنترنيت، وبفضل أساليب الشحن الكثيرة، وبفضل الأصدقاء الذين يساعدون بشحن المؤلفات التى أطلبها، يبحثون عنها ويمدونى بها، وأنا شخصيا حريصة جدا على التحدث بلغتى الأم دون أن أستعين بمصطلحات انجليزية كما يفعل الآخرون من باب المفاخرة، أو التظاهر، دربت الجميع الذين يتعاملون معى أن يحترموا لغتي، أقصد العرب وأن يتحدثوا معى دون أن يستعينوا بكلمات انجليزية، لكن فى العمل فالأمر مختلف طبعا.
= ما الذى وجدته مشتركا بين العرب والاستراليين؟ - لماذا يجب أن نكون مختلفين؟ العرب بشر والأستراليون كذلك، العرب يمتهنون لغة الحب وهم أيضا، العرب يتمتعون بصفات جميلة وهم أيضا، لا أرى فارقا أبدا، لنا ثقافة يحتذى بها ولهم ثقافتهم التى تركت آثارا كبيرة على الآخر. ■ هل بالإمكان دمج ثقافات الغرب والشرق فى معين واحد أم أنه أمر مستحيل؟ - ممكن جدا، لكن بشرط واحد وهو أن ينظر العرب للغرب على أنهم لا يختلفون عنا، وما تتناقله وسائل الإعلام لا تعنى جميع المجتمعات الغربية، الفرق الوحيد أنهم لا يعانون من الازدواجية التى نعانى منها نحن، حياتهم بسيطة جدا، واضحون، مباشرون، منكشفون، إنسانيون، أعتقد أنه أمر غير مستحيل دمج الثقافتين، لقد قمت بهذه التجربة فى روايتى الخامسة (قلوب لمدن قلقة)، لقد تقمصت شخصية مثيرة للجدل، التقيتها فى المدينة، وقد أدت جزءا من دور (داليا) بطلة الرواية، فقد خدمت النص، لقد استطعت من خلالها أن أحبب القارئ العربى بهكذا شخصية تعتبر مختلة عقليا (حسب مفهومنا)، وقد لاقت هذه الشخصية إعجابا كبيرا من المتلقين ذات الذائقة الراقية، فتعاطفوا معها وأحبوها. ■ إلى أى حد حقق الأدب العربى وجوده عالميا؟ - المعيقات كثيرة، الكاتب العربى لا يجد من يهتم به، لا فى وطنه ولا فى الوطن البديل، نسبة الكتب المترجمة قليلة جدا، والأقلام العربية التى تكتب بلغة أجنبية أيضا قليلة، ودور النشر التى تهتم بنشر نتاجنا محدودة جدا، لا أملك نسبة محددة لأجيب على هذا السؤال، لكن من تجوالى فى السوق الأسترالية لمعارض الكتب، لم أر حتى الآن سوى القلة القليلة، جبران خليل جبران، محمود درويش، وبعض الأسماء التى لا يعرفها القارئ العربي، الأسباب كثيرة جدا، لا أريد أن أناقشها هنا، لكن أضع اللوم على السفارات العربية والملحقيات الثقافية التى تمثلنا هنا، سوق الكتاب العربى راكدة جدا ونعانى من النقص فى المؤلفات الجيدة، وعندما تقام مهرجانات ثقافية نجد أن المشاركات تنحصر فى موضوعة الدين والتعريف عن الدين فقط، متناسين حضارتنا العربية، وثقافتنا وكتابنا وشعراءنا وأدباءنا ونقادنا وفنانينا. ■ بين الصحافة والإبداع.. كيف تحلق دينا سليم؟ - فرق شاسع بين الصحافة والكتابة الإبداعية، لكنى أحاول دائما أن أكتب بصيغتين، الصيغة التقريرية التى تناسب عملى فى الصحافة والإعلام، وعندما أعدّ وأقدم البرنامج العربى فى الإذاعة المحلية، أحلق فى سماء صافية جميلة، أقوم باختيار القطع الموسيقية أيضا لأنى محبة للموسيقى والطرب، وكذلك أعمل كمهندسة فنية فى البرامج الإذاعية، هذا العمل يعجبنى جدا، لكنه يستهلكنى أيضا، لكنى لا أستطيع التخلى عنه، أما بالنسبة للمجال الإبداعى فهذا شيء مختلف جدا، ولأنى أكره الروتين، أعتزل الحياة من أجل الرواية، أغلق على نفسي، وأذهب إلى حيث الوحى بانتظاري، فأخط مباشرة على الجهاز، أجمل لحظات عمرى أعيشها وأنا بين أبطالى الجدد. ■ كيف تنظرين إلى ثورات الربيع العربي؟ وهل ترين الشرق قادما بقوة نحو الغرب أم العكس؟ - من يعرفنى عن قرب، فسوف يستاء من تفاؤلى الدائم، أنا إنسانًا متفائلاً فى طبعي، لكن هذه المرة أخشى أن أكون متشائمة بعض الشيء، لا أرى أى أمل فى التغيير، وأعتقد أن هذه الثورات أتت فى الزمان الخطأ، الثورة معناها أن ننتقل من وضع إلى وضع آخر مختلف تماما، ثم أنا أؤمن بلغة الحوار دائما، أنبذ العنف وأكره التعصب الدينى أو الطائفي، لا أحتمل رؤية العنف والدماء المسفوحة، أؤمن بأنه توجد طرق أخرى بديلة لكل الحاصل وهذا الموت المجانى يجب أن يتوقف حالا.