أن تكون قاضياً يعنى أنك تتصدى لما لا يقدر عليه غيرك، فكيف تتنحى عن مهمة مقدسة؟ التنحى له ضوابط قانونية محددة، ليس من بينها أن القاضى يخشى على حياته. القاضى يحكم على تاجر المخدرات، وهو يعلم أن خلفه «عصابة»، فهل يخاف؟ القاضى حين يُصدر حكماً بالإعدام على قاتل يجد أمام منصته أهل القاتل ومن لن يرضى بالحكم، فهل يتراجع عن النطق بالحكم؟ لماذا إذن تنحى بعض القضاة عن نظر قضايا تخص أعضاء فى «جماعة الإخوان»؟ هل هو الخوف فعلاً، أم أن فى الأمر هوى سياسياً، أم أن القاضى يتعرض لضغوط لتوجيه هذه الأحكام، أم أن هناك مانعاً قانونياً جعل القاضى يستشعر الحرج؟ هذه أسئلة ليس لدى أحد إجابة عنها، أو عن بعضها ما دام القاضى تركنا خلف لغز «استشعار الحرج». إذا كان القاضى خائفاً على حياته وحياة أسرته، ويتنحى لهذا السبب، فإنه يفعل شيئين خطيرين؛ الأول أنه يريد أن يلقى بالخطر على زميل آخر ودائرة أخرى، أى أنه لا يُبطل مفعول القنبلة، إنما يضعها أمام باب جاره، الثانى أنه ينزع عن نفسه صفة القاضى الذى لا يخشى فى الحق لومة لائم، ويتخلى طواعية عن أن يحكم بين الناس بالعدل. أن تكون قاضياً يعنى أن تكون منزّهاً عن الهوى، بعيداً عن السياسة وانحيازها. ليس ثمة تلاق بين السياسة والقضاء، وإذا حدث وتعانقا، فالاثنان فى ورطة، لأن السياسى ما إن يتقمص دور القاضى يضيع دوره ويسقط فى متاهة الشك، وحين يرتدى القاضى عباءة السياسى يفقد على الفور حياده المطلق ويصبح محل شك، فالسياسة هى الانحياز والمراوغة، والقضاء هو الحياد والوضوح. هذه أيضاً نقطة تنزع عن القاضى وشاح العدل. القضاة ميزان الحياة، إذا اعتدلوا اعتدلت، وإذا مالوا مالت. والقضاء حصن البشر، خلفه يعيشون حياتهم مطمئنين آمنين، لا ترهبهم سلطة ولا يخيفهم صاحب جاه، لأن ميزان العدل قائم بين المتخاصمين والمتنازعين، يقتص من الظالم والمستبد وينصف المظلوم. وإذا ما اهتز النظام القضائى، فإن المجتمع بكل طبقاته يهتز ويسقط أخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. إذا كان العدل أساس الملك، فإن القضاء أساس العدل وذراعه. ولعل الإنسان لم يخترع شيئاً أنبل من القانون الذى يفقد قيمته إذا لم يجد قاضياً يطبقه بغير هوى، أو ميل لحاكم أو حزب أو قريب أو صديق، دون أن يغرب عن بالنا بشرية القاضى الذى يصيب ويخطئ، وفقاً لثقافته وعاداته ومشاعره، وفى الحالتين علينا أن نسلم باجتهاده، طالما ارتضى المجتمع -وفقاً لشروط محددة لا يجوز أن يشوبها فساد- أن يجلس، هذا البشرى، فوق منصة القضاء. إذن القاضى يخطئ، وكتب القانون مليئة بأحكام تراها غير صحيحة، فضلاً عن أن أحكام محكمة النقض، التى تحاكم الحكم، خير دليل على ذلك. هذا لا يعيب القاضى الذى يأخذ نصيباً على اجتهاده. نحن الآن أمام حالة لم تأخذ شكل الظاهرة، ولكنها تثير القلق فى النفوس وتستدعى سرعة التوضيح حتى لا يفقد الناس ثقتهم فى القضاء تماماً. يمكن إخافة القاضى فى كل قضية حتى لا يحكم بالعدل، فالمتخاصمان كل منهما يريد حكماً لصالحه، بينما القاضى لا يملك إصدار حكمين فى قضية واحدة. القاضى يعرف ذلك ويتصدى للحكم من دون خوف. نحن فى حاجة لأن يشعر الجميع بأن القانون حادّ كما السيف، لا يضعف ولا يتراجع أمام جبروت حاكم، أو إرهاب جماعة، أو تهديد عصابة. هذا إذا كان الأمر يتعلق بخشية القاضى على حياته، أما إذا كان فى الأمر «هوى سياسى»، فيجب أن يكون لمجلس القضاء الأعلى موقف وإجراءات قانونية. يتبقى ما يتعلق ب«استشعار الحرج» لأسباب قانونية، وهذا أمر ينبغى أن يكون معلناً لحظة إعلان التنحى. ساعتها سيثق الجميع بأن يد العدالة طويلة وتصل إلى حيث يقع الاعتداء على الوطن، أو النفس أو العرض أو المال، وسيتأكد الجميع أن العدالة لا تزجّ بأحد الأبرياء خلف القضبان ظلماً، وأن الاعتراض على الأحكام له محاكمه وطرقه القانونية.