الجدل الذى يشهده الشارع المصرى حول ماهية الدستور ومضامينه دليل على أن ما بعد «30 يونيو» يختلف تماماً عما قبله، فهو مؤشر لإدراكنا لأهمية الدستور كوثيقة حاكمة تضبط العلاقة بين الحكام والمحكومين، فضلاً عن أهميته فى رسم خارطة الحقوق والواجبات لكافة أطياف الشعب، فى ضوء تجاذبات القوى على الأرض. ومن البادى أن طبيعة اللحظة بكل ارتباكاتها وتضاغطاتها حاضرة فى هذا الجدل وملامح القلق التى تعتريه، وأيضاً موجات التشكيك التى يقف وراءها كل من أُضير من تصحيحية يونيو هذه، وهى موجات خرجت من سياق الجدل إلى فعل الإرهاب والترويع، وهى تدرك أنها تخوض معركتها الأخيرة، ونحن نترجم على الأرض خارطة الطريق؛ إلى دستور، برلمان، رئاسة. وبعيداً عن معارك لجنة الخمسين الفعلية والمتوهمة، ثم المعارك التى تفجرت عقب إعلان منتجها الدستورى، الموضوعية والمسيّسة، نلتقط بعض ملامح وثيقة الدستور المطروحة للاستفتاء، ونقف عند «حكومتها مدنية»، ويكون التساؤل: ما الحكومة وما دورها؟ هى التى تدير شئون الدولة وفق رؤية يرسم إطارها ومحاورها الرئيسية دستور البلاد ولا تملك أن تخرج عنه، وهى بهذا لا تنحصر فى السلطة التنفيذية بل تشمل السلطات الثلاث مجتمعة فى ضوء جدلية العلاقة بينها وفق قواعد الرقابة المتبادلة بينها. والحكومة فى إطار السلطة التنفيذية تناولتها المواد من 163 وحتى 174، وتشكيلها حق لرئيس الجمهورية يستوجب أن تعرض الحكومة برنامجها على البرلمان لتحوز ثقته (مادة 146) وإلا فيعيد الرئيس تكليف رئيس وزراء آخر بترشيح من الحزب أو الائتلاف الحائز أكثرية مقاعد البرلمان، وهنا نكتشف ارتباطاً وثيقاً مع نص الدستور على حظر قيام أحزاب على أساس دينى (مادة 74) والذى يحظر أيضاً قيام أحزاب أساس طائفى أو جغرافى أو التى تمارس نشاطاً معادياً لمبادئ الديمقراطية أو نشاطاً ذا طابع عسكرى. وبناء عليه يستحيل أن يكون البرلمان أغلبية أو ائتلافات وكذلك الحكومة لهما صبغة دينية أو عسكرية، وإلا تعرضا لعدم الدستورية، يستوجب الأمر إنشاء جهاز رقابى، مفوضية، لضمان مدنية الأحزاب عبر ممارساتها، ويكون لها الحق فى طلب حل الحزب الذى ينحرف عن ضوابط ومحددات الدستور. ونلاحظ أن الديباجة لم تذكر ماهية الدولة وتركت هذا لمتن الدستور، فى مواد واضحة لا لبس فيها، والمشرع البرلمانى يلجأ للديباجة حين يلتبس عليه نص دستورى فيعود إليها للوقوف على نية المشرع الدستورى ثم لمضابط جلسات اللجنة وأعمالها التحضيرية لذات الغرض، وهى تؤكد أن المعنى الذى انصرفت إليه لجنة الصياغة من حكومة مدنية هو حكمها مدنى. فماذا قالت النصوص الدستورية فى شأن مدنية الدولة؟ حددت المادة الأولى محاور الدولة: ديمقراطية تقوم على المواطنة وسيادة القانون، وفى المادة 4 أكدت السيادة للشعب وعلى وحدته الوطنية التى تقوم على مبادئ المساواة والعدل وتكافؤ الفرص بين جميع المواطنين، وتعيد تأكيد هذا فى المادة 9، وفى المادة 5 تؤكد احترام حقوق الإنسان وحرياته، وتفرض فى المادة 24 تدريس حقوق الإنسان، وتلتزم فى المواد من 47 إلى 50 بالحفاظ على الهوية الثقافية المصرية بروافدها الحضارية المتنوعة. وفى باب الحقوق والحريات تجرّم التمييز والحض على الكراهية بسبب الدين والعقيدة، وتقر إنشاء مفوضية لهذا، وتقر حريات ممارسة الشعائر الدينية، وحرية الفكر والرأى والبحث العلمى والإبداع الفنى والأدبى والصحافة، وتحظر كل صور العبودية والاسترقاق والقهر. ثم تأتى المادة 93 لتفرض على الدولة الالتزام بالاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. ألسنا هنا بصدد دستور مدنى لدولة مدنية؟