طالعتنا وسائل الإعلام باستقالة السيد يوسف القرضاوى، من هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، وأشد ما يلفت الانتباه كم الكراهية والأحقاد والسموم التى ينفثها الرجل فى سطور هذه الاستقالة، فضلاً عن انحطاط لغة الخطاب التى تليق بالطبع بمثل هذه الروح التى يستعيذ منها كل أزهرى حقيق بهذا الوصف وكل مصرى وطنى شريف. ولم يكتف الرجل بتوزيع مراسم الإساءة والشتائم على الأزهر الشريف وشيخه الإمام الأكبر وهيئة كبار علمائه بل جلس فى مجلس الحاكم بأمره يوزع مراسم التكفير والتكذيب والظلم والافتراء على مؤسسات الدولة، لينتهى إلى تعميم الحكم على مصر كلها منزلاً عليها قوله تعالى: «وَكَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِى ظَالِمَةٌ * إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ» (هود - 102). فالأزهر عند الرجل ليس هو ذلك الكيان العريق الذى يعكس ضمير الأمة الإسلامية كلها، وليس هو تلك البصمة الحضارية التى تطبع كل مصرى فى دينه وعلمه وفكره وثقافته وسلوكه، وليس هو تلك المرجعية التاريخية العالمية التى تهفو إليها القلوب والعقول، وإنما الأزهر عند الرجل -حسبما جاء فى نص استقالته- أزهر آخر يسير فى الركاب ويمسح الأعتاب لكل فاجر كذاب (تأمل أدب العلماء) أما هيئة كبار العلماء: «فلا خير ينتظر من ورائها، ولا فائدة تُرجى من البقاء فيها، ولا تصلح هيئة لمثله» (تأمل تواضع العلماء!). ومع ذلك لم ينس الشيخ فى استقالته المزعومة أن يوقع: يوسف القرضاوى عضو هيئة كبار العلماء. أما شيخ الأزهر: فليس هو ذلك الرجل الذى تراه جموع الشعب المصرى ويراه العالم كله مثالاً للعالم العامل الحكيم الزاهد الورع، الذى اجتمعت حوله الأمة بكل تياراتها وأطيافها وأحزابها وقياداتها فى أشد اللحظات حرجاً وتفرقاً إبان وعقب 25 يناير، ثم تقاطرت عليه الرسل من كافة أرجاء الأرض تستقى من حكمته ورأيه النافذ، من أجل إيجاد حلول لأزمة تسببت فيها جماعته عقب الثلاثين من يونيو، ووقفوا حائلاً دون حلها، وإنما شيخ الأزهر فى عين الرجل هو المتهم بكل نقيصة -يعف عن ذكرها إبليس- فى ماضيه وحاضره، ويا كم نصحه الرجل حتى يعود عن غيِّه. تأمل كم المغالطات وحجم التناقضات عند الرجل الذى يختزل الشعب المصرى فى جماعته، التى يتحدث إليها ويقدم استقالته لها، معتبرها هى الشعب المصرى العظيم، وأن دولة الجماعة هى دولة الحرية والكرامة والديمقراطية والشورى والدستور والنظام المدنى ودولة المؤسسات التى هدمها الانقلاب. تأمل حجم التطاول على مقام الأزهر الشريف دونما احترام لمناصب الدين وعلومه ورسومه، أو حفظ لحقوق علمائه ومؤسساته وتاريخها العريق. يقول القرضاوى فى استقالته من هيئة كبار العلماء إنها (لا تصلح لمثله) ولقد صدق فى ذلك، لأنها هيئة لكبار العلماء دون سواهم، إذ لا تعرفُ شخصيَّة الأزهرى العادى فضلاً عن العالم، التجريح والطعن والسب واللعن وتهوين أقدار الأئمَّة والسُّخرية من أولياء الله، سخراً يُدمِّر من روحانيات الدِّين، وعلومه المقدَّسة، ورسالة الأزهر العالمية، ويحط من هيبته فى عيون الناس. ليس من خَصائص الأزهرى ما نراه فى بعض من ينتسبون إلى الأزهر من احتراف مِهنة الاتِّجار بالدِّين، فلم تعرف الدُّنيا عهداً، أصبح فيه الاعتقاد فى شأنٍ دِينى أو الإيمان برأى أو الانتماء لحزب سياسى حرفة وتجارة إلا فى زماننا هذا، ومن شرط محترِف هذه المهنة ألا يحفظ لمسلم حُرمة، وألا يترفَّع عن الانغِماس فى مقاذر السباب، وأن يستنقص كبار أئمَّة الأمَّة، ورموز أزهرها، وأنْ يرمى الأمَّة بالكفر أو الزندقة إلا مَن كان على رأيه ومذهبه، ادِّعاءً بأنه إنَّما يفعل ذلك ليُحافظ على دِين الله وعلى كتاب الله، وسنَّة رسول الله، والأزهر من الضَّياع. فلا بارَك الله فى دِينٍ يُتَّخذ طريقاً إلى دُنيا، ولا بارك الله فى مُتديِّن احترف التديُّن دون مُراعاةٍ لرب، ولا مُبالاة بوطن أثخنَتْه كثرةُ الجراح، ويُوشك أنْ يلفظ أنفاسه الأخيرة، وتَعِس عالم اتَّخذ العلم صناعة والدِّين بضاعة لا يرقب فى مؤمن إلاً ولا ذِمَّة، وتباً وسُحقاً لحرفة تتلف الذمم وتفسد الإنسان وتطعن الدِّين والوطَن. لا يُمكن لأزهرى أن يبيع أزهرَه لمحطات الإذاعة وقنوات الفضاء والصحف والمجلات، وقاعات المحاضرات، خاصة تلك التى تعملُ أبواق دعاية لدول تطمع فى اقتناص الرِّيادة الدِّينية العالمية للإسلام من الأزهر، غيرةً وحسداً باسم اتحاداتٍ للعلماء أو غير ذلك من التنظيمات ذات الأغراض المشبوهة المعروفة. إن اليقين الذى يعلمه الشرفاء فى الأزهر وفى مصر والعالم أن المواقف التى اتخذها الإمام الأكبر لم تصدر يوماً إلا عن ثوابت الأزهر الوطنية وقناعته العلمية، فضلاً عن المعرفة الثاقبة بفقه الواقع، وإذا كان الإمام الأكبر قد رأى أخف الضررين فى جواز أمر يرى غيره منعه، فالقاعدة الفقهية أنه «لا إنكار فى المختلف فيه» طالما احتمل الأمر الجواز والمنع، والمجتهد ملزم شرعاً بالتزام ما صح عنده حتى يتبين له ما يغير اعتقاده بيقين، بل إن التخلف عن الثالث من يوليو فى تلك اللحظة التى بلغت فيها القلوب الحناجر، وفى تلك الظروف التى تعرض فيها الوطن كله للخطر، هو الخيانة للواجب الوطنى المفروض بحكم المسئولية، فمحاولة القرضاوى القفز على المشهد بتصويره على غير واقعه أو تأويله لأغراض سياسية أو توظيفه لأهداف حزبية بإثارة الفتن، والزراية بكل رأى أو فتوى تخالف فتاواه وآراءه إنما هى عصبية ممقوتة لا يعرفها المنهج العلمى الأزهرى ولا توجد إلا عند من يزعمون أن الدين وقف عليهم وحكر لهم وحدهم. فهل كان على الإمام الأكبر أن يتخلى عن ثوابت الأزهر الوطنية، ويضرب عرض الحائط بإرادة الملايين التى اكتظت بها الميادين والشوارع فى الثلاثين من يونيو بصورة لم يشهد لها العالم مثيلا من قبل، لينحاز إلى رأى القرضاوى الذى لا يعبر إلا عن مواقف من يتبعهم فقط من أصحاب الأهواء السياسية ويخالف ضميره العلمى الذى وقر فيه أن أكثر ما كان وما زال تقاتل الناس حول الحكم والسياسة باسم الدين، وكما قال الإمام الشهرستانى: «ما سُلَّ سيف فى الإسلام على قاعدة دينية مثلما سل على الإمامة فى كل زمان»، والإمام الأكبر أكبرُ من أن يقفَ مع فريقٍ ضد فريق، والجميع يعلم كم سعى وكم جاهد للحَيْلولة دون الوصول إلى هذه النُّقطة الحرجة التى لطالما حذَّر منها، ولم يعبأ بها أحد، ويجب أن يُسأل عنها كل مَن كان سبباً فى الوصول بالبلاد إلى هذه الحافَّة، والأزهر الشريف يسع الجميع، فهو لكل مسلم ولكل مؤمن ولكل إنسان، فلو اعتمد فكر جماعة أو حكومة أو فئة أو حزب كائناً من كان -لا قدر الله- فقد حمل حتفه فى كفه، ولن يغنى عنه ذلك من الله شيئاً ولا من الناس فى شىء. إن الأزهر الشريف فى مصر هو العنوان الدينى الأقدس وحول حرمه ترف قلوب المصريين جميعاً وملايين المسلمين فى الدنيا كلها، وفوق منارته تحوم أرواح المصلحين والدعاة، وبعلمائه وطلابه تتعلق الآمال وتُناط الأمانى العراض، فهو أول مسئول وأعظم مأمول فى حراسة الشريعة والقيام على أمرها وتجديدها والحفاظ على حرمتها، رسالة خالصة لوجه الله ممحصة ممحضة من كل غرض أو عرض أو مرض، يساندها أكثر من ألف عام من علم أصيل ومنهج رصين وتراث عريق وأدب عميق «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِى الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ». فدعاوى الشريعة وربطها بالشرعية بالمزايدة على الأزهر وعلمائه وإثارة الفتن بين رجاله وطلابه، إنما هى حق أُريد به باطل، واتباع للهوى وتوظيف للدين لتحقيق مكاسب دنيوية، ومحاولة للانقضاض على مواقع التوجيه والحركة فى الأزهر، فليتيقظ رجال الأزهر وعلماؤه وطلابه ومحبوه وكل المنتمين إليه من هذه الدسائس. ولقد أزفت الآزفة وحان الوقت لأن يأرز الأزهريون إلى أزهرهم ويدافعوا عن بضته وينهضوا به ويضطلعوا بدعوته، وفقاً لمنهجهم الذى تعلموه ويعلمونه حتى يميز الله بهم الخبيث من الطيب «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِى الأَرْضِ». أكان على الأزهر وإمامه الأكبر وهيئة كبار علمائه أن يؤيدوا خروج الجماعة ومن شايعها على إجماع الشعب المصرى ويرضوا بتصوير ما يجرى من صراع سياسى على أنه صراع بين مؤمنين وكفار، وموحدين ومشركين، وصادقين ومنافقين حتى يرض عنهم القرضاوى؟! هل كان على الأزهر أن يسكت عما يحدث فى سيناء من إعلان الجهاد ضد مصر وشعبها وقتل خير أجناد الأرض وتحويل مصر إلى ساحة للإرهاب باسم الجهاد، أم أن رفع راية الجهاد مباح عند القرضاوى وجماعته ضد أهل الدين والوطن؟! هل كان على أزهر مصر أن ينصاع إلى أوامر تركيا أو قطر ويبارك التدخل الأجنبى فى شئون مصر الداخلية من أجل عيون الجماعة حتى يرضى القرضاوى عنه؟! وهل قصّر الأزهر على الجانب الآخر فى إدانة العنف من كافة الأطراف وبث الكراهية والأحقاد فى المجتمع، والمطالبة بسرعة جمع الشمل وإنهاء الخلافات السياسية والإسراع بسفينة الوطن إلى بر الأمان؟! ربما يعتقدُ القرضاوى ومن على نهجه أنَّه بتصرُّفه هكذا إنَّما ينال من شخص شيخ الأزهر، الذى لا يراه بحسب مبلغ العلم عنده إلا مديراً لمؤسسة فى الدولة، فى حين أنَّ شيخ الأزهر كما يراه أهل العلم والبصيرة رمز للدين ورائد للعلم، يعلم ويُعلِّم الناس أنَّ الناس هم الناس، لن يرضوا عنك ولو كنت فى قَداسة الملائكة وطهر الأنبياء، فلا يعمل إلا لله، ولا يبحث إلا عن رضا الله، إنَّ شيخ الأزهر لا يُبالى بهذه الصَّغائر لأنَّه يعلم ويُعلِّم الناس أنَّ العناء والابتلاء من مَواريث النبوَّة الأولى، وعلى قَدر الإخلاص والدِّين يكون الابتلاء، وكلَّما تنكَّر لك الخصوم وتألَّب عليك المقرَّبون كان ذلك دليلاً على أنَّك من أحباب السماء. لقد باع يهوذا الإسخريوطى سيده المسيح بدانق وسحتوت ولم يأبه لما ارتبط به من عهد الله معه، ولا للمفروض عليه من قوانين الأخلاق ومعايير القيم، فليس بمستغربٍ أن يبيع هؤلاء منصب العلم وقيم الدِّين فى سُوق النخاسة الإعلامية، والناس هم الناس بكلِّ ما فى البشرية من نزوات وبدوات وصَبوات وشهوات ونفعية ووصولية، والمشابهة والمناسبة والغاية تجمع البعض على البعض، وهم أعلم ببعض من بعض، وما كان لله دام واتَّصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، والدنيا حُبلى بالعجائب والدَّهر قُلب حُول غدَّار، ولا أمان لزمان، والدَّيَّان سبحانه لا يموت، وكما تَدين تُدان. إنَّ هؤلاء لا يعلمون أنَّ الدسَّ بالأخيار نعمة من الله لهم، وفضل من مَواريث النبوَّة، قال السيوطى -رضى الله عنه-: «وممَّا مَنَّ الله به علىَّ أنْ أقام لى عدوا يُؤذينى ويُمزِّق عرضى؛ ليكون لى أسوة بالأنبياء والأولياء». ولقد ابتلَى الله البخارى، ومَن هو البخارى -رضى الله عنه- صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله، ابتلاه الله تعالى بأشباه الرجال من أهل بُخارى فرموه بالعظائم، ولوَّثوه بالسخائم، وأغروا به سُفهاءهم وسفلتهم، وأخرجوه من بُخارى شرَّ ما يخرج مجرم أثيم حتى جاء أمر الله. إمام الأئمَّة مالك -رضى الله عنه- فُتِن بحثالة من الناس حتى سُجِن وضرب وأُخرِج من دياره، وظلَّ معتكفاً عن الناس لا يشهد جمعةً ولا جماعة ثلاث سنوات. وأخرج الحاقدون ذا النون المصرى -رضى الله عنه- من مصر إلى بغداد حافى القدمين، عارى الرأس، مشدود العُنق بحبلٍ من الليف، يُطاف به فى المدائن والقرى تحقراً حتى جاء أمر الله؛ «وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ» (الروم: 47). وكادوا للنسيمى، ورموا سحنون المحب بالعظائم وأفتوا بكفرِ أبى سعيد الخراز، وشَهِدوا على الجنيد بذلك، ومن قبل نسبوا عبدالله بن الزبير إلى الرِّياء والنِّفاق، وكان لابن عباس نافع بن الأزرق يُؤذِيه أشدَّ الأذى، ولسعد بن أبى وقاص جهلةٌ يُؤذونه وهو المشهود له بالجنة. ومِن بَعْدُ ضَُرب أبوحنيفة وابن حنبل، ونُفى الشافعى من أهل العراق إلى مصر، وأخرجوا الإمام أبا بكر النابلسى من المغرب إلى مصر وشهدوا عليه بالزندقة، وكذا فعلوا بالشيخ أبى مدين مع جلالة قدرة وعلوِّ كعبه، ورموا العزَّ بن عبدالسلام، سلطان العلماء بالكفر، وتاج الدين السبكى بالزندقة.. والقائمة تطول؛ قال تعالى: «سُنَّةَ اللَّهِ فِى الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا» (الأحزاب: 60). إنَّ محاولة إرهاب الناس بالتشهير والتشنيع والتلفيق والشائعات انتصاراً لرأى على رأى، أو طمعاً فى منصب على منصب، أو نصرة لحزبٍ على حِزب، أو جماعة على جماعة، إنَّما هى إسفافٌ يُجافى كلَّ القيم والأخلاقيات، قال تعالى «بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ» (القمر: 46). ومَن أرضى الله بسخط الناس كان الله له، ومَن أسخط الله برضا الناس كان الله عليه، ولا يستوى الخبيثُ والطيب، ولا المفسِد ولا المصلِح، ولا العالِمُ والجاهل، ولا مَن يُصانع الناس ومَن يُقارع الناس، ألا وأنَّه لا يزال هناك وهنا رجال صدَقُوا ما عاهدوا الله عليه، أولو بقيَّة ممَّن ينهَوْن عن الفساد فى الأرض، لا يلبسون الحق بالباطل ولا يكتمون الحق وهم يعلمون، قال تعالى: «فاعتبروا يا أولى الأبصار» (الحشر: 2)، هَدانا الله وإيَّاكم إلى سواء السبيل.