فاجأنا شيخنا العلامة الدكتور يوسف القرضاوى –حفظه الله- بتقديم استقالته من هيئة كبار علماء الأزهر، وأحسب أن تقديم فضيلته الاستقالة من هيئة كبار العلماء من توفيق الله تعالى له، كما أنها من الجهاد الواجب على العلماء تجاه النظام الظالم من سلطة الانقلاب ورموزه، وليس تقديم استقالة من الأزهر، فعالم الأزهر لا يستقيل منه، وإنما هى استقالة من الاشتراك مع سلطة الانقلاب الدينى، وهو نوع من المفاصلة بين الحق والباطل، فمؤسسة الأزهر الآن لا تمثل أزهر مصر الذى ملأ الأرض علما ودعوة، وخرَّج للعالم علماء ثقات كبارا، فهى الآن مؤسسة الانقلاب الدينى وإن المؤسسة الدينية حين تسير فى ركاب الحكام الظالمين، فهى تخون الأمانة، وتنقض العهد الذى أخذه الله تعالى على العلماء حين قال: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنا قَلِيلا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 187]. وإن مؤسسة الأزهر الرسمية تقوم الآن بدور سحرة فرعون، فكل نظام ظالم لابد أن يستند إلى جماعة من علماء الدين حتى يلبسوا على الناس، فإذا رأى الناس شيخا بعمة أزهرية صدقوا كل ما يقوله لهم، باعتبار أنه يتحدث باسم الله تعالى، ومبين للناس أحكام الله، لكن الناس تنسى أن العلم ليس مجرد ثياب تلبس، ولا جامعة ينتمى إليها، فقيمة الأزهر فى قيامه بواجب حفظ الدين، وانتصار للشريعة، سواء أكان الحق مع الحاكم أو المحكوم، وقد وجدنا مؤسسة الأزهر تجيز الانقلاب على الحاكم الشرعى، وتحرم الخروج على الحاكم الظالم، وتجيز قتل المسالمين، وتحرم الاعتداء على المعتدين، وترى جواز دستور يبعد الإسلام عن أن يكون حاكما لحياة الناس، وتخرس وقت الحق، وتتكلم وقت الباطل، بل وصل من طغيانها وضلالها الإفتاء بجواز قتل طوائف من الشعب باسم الدين، كل ذلك طمعا فى البقاء فى منصب زائل، فأشبهوا سحرة فرعون حين حكى القرآن الكريم عنهم: {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ. قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء: 41، 42]، بل كان سحرة فرعون أشرف ممن سار فى ركاب الانقلاب العسكرى، إذ لما ظهر لسحرة فرعون الحق رجعوا إليه، وأعلنوا أن يسيروا فى ركاب الشريعة والحق، كما قال ربنا سبحانه: {فَأُلْقِى السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ . قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ . قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إلى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ . إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 46 - 51]. ورحم الله الأزهر حين كان يظلم المماليك بعض الرعية، فيذهب الرجل إلى الأزهر، فيأخذ شيخ الأزهر بيد المظلوم ويذهب للوالى، فإما أن يرد إلى الرجل مظلمته، أو يرجع الشيخ، فيأمر بمن يصعد سطح الأزهر، فينادى فى الناس فتكون ثورة. ولما خطب أحد شيوخ الأزهر أيام الاحتلال الإنجليزى وتحدث عن الإنجليز، فعوتب من قبل رئيس الوزراء، فقال له: أتهددنى وأنا شيخ الأزهر، فوالله إن لم ترجعوا عما أنتم فيه، لصعدت منبر الحسين فخطبت بالناس ودعوت لعزلك. ومما يحفظ لعلماء الأزهر فى العصر الحديث أن الشيخ (أبو زهرة) –رحمه الله- كان قد دعى إلى ندوة إسلامية بإحدى العواصم العربية التى اشتهرت بالثورية مع مجموعة من كبار علماء المسلمين، وأراد حاكم الدولة أن يدفع العلماء إلى تأييد ما يذهب إليه من مذهب الاشتراكية وأن الاشتراكية مذهب إسلامى، وقال إنه دعا إلى الندوة ليقرر العلماء أن الاشتراكية مذهب إسلامى أصيل، فعبست الوجوه، ولم يستطع أحد من العلماء الكلام، فطلب الشيخ أبو زهرة الكلمة، واتجه إلى المنبر وقال فى شجاعة: نحن علماء الإسلام وفقهاؤه، وقد جئنا إلى هذه الندوة، لنقول كلمة الإسلام كما نراها نحن لا كما يراها السياسيون، ومن واجب رجال السياسة أن يستمعوا للعلماء، وأن يعرفوا أنهم متخصصون فاهمون، لا تخدعهم البوارق المضرية، وقد درسوا ما يسمى بالاشتراكية، فرأوا الإسلام أعلى قدرا، وأسمى اتجاها من أن ينحصر فى نطاقها، وسيصدر المجتمعون رأيهم كما يعتقدون، لا كما يريد رجال السياسة، فهم أولُو الأمر فى هذا المجال، ثم توجه الشيخ إلى زملائه قائلا: هل فيكم من يخالف؟ "فرأى الإجماع منعقدا على تأييده، فقال: الحمد لله أن وفق علماء المسلمين إلى ما يرضى الله ورسوله. ولم تكمل الندوة دورتها، بل كان يوم الافتتاح هو يوم الختام. إن أزهرنا هو أزهر الأمس وليس أزهر اليوم، فهو أزهر الحق لا أزهر الباطل، أزهر الدفاع عن الحقوق، لا أزهر الدفاع عن الظلمة الفجرة. وإنه من الواجب على الشرفاء من علماء هيئة كبار العلماء أن يقدموا استقالتهم من تلك الهيئة التى لا تقوم بدورها، بل تستخدم أسماؤهم –بغير رضا منهم- فى أن تكون طعنة فى ظهر هذا الشعب ودينه، فكان من الواجب على العلماء أن يتقوا الله تعالى بترك تلك الهيئة وتقديم استقالتهم، ولعل الاستقالة تكون من المواقف المشهودة لأصحاب الفضيلة الذين يصدعون بالحق، ولا يخافون فى الله لومة لائم، وإذا رأى كبار العلماء بعد ذلك أن ينشئوا هيئة مستقلة بعيدة عن سلطة الحكم فلهم ذلك، حتى يكون الأزهر مستقلا بعيدا عن التجاذبات السياسية، فيصدعون بالحق الذى يرونه ويحاسبون عليه أمام الله تعالى.